@ هل أحدث الحراك الشعبي نقلة حقيقية في المسار السياسي في الجزائر ؟ ^ يعتبر الحراك السياسي الذي عاشته الجزائر في شهر فيفري من عام 2019 حدثا مفصليا في تاريخ الجزائر المعاصر يؤرخ لمرحلتين منفصلتين : مرحلة ما قبل الحراك، ومرحلة ما بعد الحراك فهو حدث جديد لم يسبق أن عاشته الجزائر، عدا احتجاجات أكتوبر 1988 التي كانت لأسباب وظروف مغايرة تماما لما حدث في فيفري 2019 ، فالحراك لم يكن مخططا له ، ولم يكن مهيكلا وفق هرمية معينة، بل كان عفويا لأقصى درجة، أبان فيه الشعب عن مستوى من الوعي، بعدما كانت له اتجاهات مسبقة تجاه ما تعيشه الحياة السياسية في البلاد، تحول بعدها إلى رأي معبر عنه في مختلف الفضاءات خاصة الافتراضية ، و كان الإفصاح عن نية الرئيس السابق الترشح لعهدة خامسة على التوالي، النقطة التي أفاضت الكأس، وتحولت معها اتجاهات أفراد الشعب إلى سلوك معبر عنه من خلال سلسلة احتجاجات أسبوعية سلمية امتدت لأكثر من عام كامل، توجت في الأخير بفشل مشروع الترشح، والانتقال إلى مرحلة جديدة من تاريخ الجزائر. فقد شهدت الحياة السياسية نوعا من العفن جعل الشباب يعزف عن المشاركة والانخراط في الحياة السياسية ككل، لذلك في اعتقادي أن الحراك الشعبي قد حرر الشعب من محاولة تدجينه وتحنيط فكره وقد شكل ذات الحراك قفزة حقيقية نحو الإصلاح و انعكس ذلك في تذليل العقبات أمام الشباب الراغب في ولوج عالم السياسة، وترغيبه في المشاركة السياسية الفاعلة ولو في صفوف المعارضة النزيهة. وفي سياق آخر ومن ضمن المنجزات السياسية التي حققها الحراك هو تقليص رئيس الجمهورية لبعض الصلاحيات التي كان يتمتع بها سابقوه، و تم تقليص عهدة الرئاسة إلى أثنين فقط ، متصلة أو منفصلة، ليتاح المجال من بعدها لمختلف الكفاءات. لقد تمت مباركة الحراك الشعبي في الجزائر الجديدة وتم تضمينه في ديباجة الدستور الجديد، ويدل على القيمة الكبيرة التي حظي بها من لدن السلطات العليا في البلاد باعتباره تاريخا يبقى شاهدا على سيرورة المجتمع الجزائري الذي رهن مصيره بين أيدي حفنة من المفسدين ممن كانوا يتقلدون المسؤولية في النظام السابق. @ طفح إلى سطح الأحداث غداة تجذّر الحراك ( باعتباره امتد إلى عدة أشهر) عديد المسائل المتعلقة بالهوية و منها المرجعية التاريخية والثورية و حتى مكونات الشخصية الجزائرية و أيضا اللغة و العلم و رموز البلاد ، فهل كانت هذه المسائل التي أراد البعض ركوبها لتحويل مسار الحراك عامل قوة عرّف بالقوة الشعبية و قادها إلى التغيير أم وسيلة لضرب مكونات المجتمع الجزائري ؟ ^ المتتبع لمسار الحركات الاحتجاجية والشعبية عبر العالم يجد أن هناك نقاشات كثيرة تدور على هامش النقاش الأصلي الذي كان سببا مباشرا في وجود وانتشار تلك الحركة، ولعل هذا ما شهده الحراك الشعبي في الجزائر، إذ كان الرأي العام متجها نحو فكرة تطهير البلاد من زمرة الفاسدين، غير أنه ظهرت في المقابل نقاشات بدت حادة أحيانا متعلقة بمسائل الهوية والتاريخ والجغرافيا والانتماء والوطنية والعرق واللغة والراية الوطنية، والحديث في مثل هذه المواضيع يعتبر أمرا صحيا في ظل احترام الرأي المخالف.في الجزائر حاولت بعض الأطراف الداخلية والخارجية استغلاله لتحقيق بعض أمانيها في رؤية أكبر دولة على المستوى الإفريقي مقسمة ومجزأة يطبعها خطاب الكراهية من خلال استغلال تلك الحساسيات لصب الزيت على النار، خاصة في ظل استغلال مواقع الشبكات الاجتماعية التي يتم تسييرها وفق برمجة خاصة يتم توجيه مضامينها إلى المستخدمين في الدولة المستهدفة، في إطار حملة ممنهجة تدخل في خانة حروب الجيل الخامس التي تهدف إلى إضعاف ولاء الفرد لدولته، لكن يقظة الشعب بمختلف أطيافه الذي يشكل الشباب المشارك في الحراك نسبته الأكبر ، وأد تلك المحاولات في مهدها، فقد كان الاحتجاج باسم كامل الشعب . المتربصون رهان فاشل سرعان ما اندثر @ تبني الجزائر إعادة بناء الدولة الجديدة يعتبر السد المنيع لصد كل محاولات اللعب على أوتار الهوية وتشتيت الجزائريين الذين أخذوا العبرة مما وقع في بعض المجتمعات العربية التي تشهد فوضى ولا استقرار . راهن كثير من المتربصين بالجزائر سواء في الداخل أو الخارج على توجه الحراك الشعبي خلال بدايته نحو تقسيم الجزائريين على أسس كثيرة وراهنوا على وحدة البلاد ، إلى أيّ مدى كان هذا الطرح خاطئا؟ ^ الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها في هذا الشأن أن الحراك كان سببا في إظهارا لمتربصين بالجزائر أمة ودولة على حقيقتهم سواء كانوا من الداخل أوالخارج، فقد راهن الكثير من هؤلاء على أن يحيد الحراك الشعبي عن مساره الحضاري و بسلميته التي أشاد بها جميع المتابعين، إلى نوع من أنواع التمرد والعصيان المدني ومواجهة الدولة، محاولين إذكاء روح العصبية والقبلية و النعرة العرقية في محاولة لتشتيت الجهود والانحراف إلى قضايا هامشية ، ما أتيح بين أيديهم من وسائط تكنولوجية و من خلال التواصل مع وسائل إعلام أجنبية معروفة بالعداء. لكن كل هذه المحاولات اليائسة لتقسيم الجزائريين واجهها تفطن المتظاهرين لتلك المؤامرات محافظين على وحدتهم. لقد راهن كثير من أعداء الداخل والخارج على نقل عدوى الفوضى التي كانت تعيشها بعض البلدان العربية في تلك الفترة الزمنية وتصديرها للجزائر حتى لا تقوم لها قائمة.. @ من أهم ما أفضى إليه الحراك الشعبي المبارك تعديل الدستور الذي كان فيه كثير من الثغرات التي ظهرت مثلا في عدم القدرة على التعامل مع الوضع غداة استقالة القيادة الحاكمة السابقة ، فهل دستور اليوم قد استوفى شروط مرافقة البناء الجديد خاصة في شقه السياسي ؟ ^ مست مكاسب الحراك الشعبي عديد المجالات ولعل أبرزها كان في المجال السياسي، إذ تمخضت عنه ولادة دستور جديد حظي بمباركة شعبية بعد طرحه للاستفتاء، وقد تضمّن عديد النصوص القانونية المعدلة لما جاء في الدستور السابق في محاولة لإصلاح المنظومة السياسية، حيث غالبا ما يتم طرح انشغالات مستجدة قد يعجز أي نص قانوني مهما كان سنده وقيمته أن يتكيف معها، وهذا أمر طبيعي ومستساغ خاصة في ظل حياة اجتماعية وسياسية متغيرة ومتقلبة وليست ثابتة بالمطلق كحال النص القانوني، ومن هذا المنطلق فقد تحدث كثير من القانونيين والمشتغلين بالحقل السياسي عن مسألة فراغ السلطة في حالة وفاة أو استقالة رئيس الجمهورية من منصبه في ظل عدم وجود منصب نائب الرئيس، مما قد يدخل البلاد في فراغ دستوري، وهذا الانشغال طرح في الدستور السابق وكان محل أخذ ورد واختلف فيه فقهاء القانون أنفسهم، بالنظر لعدم وجود نص قانوني صريح يعالج المشكلة من أساسها، رغم أن المادة 102 من الدستور السابق المعدل في 2016 التي تتحدث عن شغور منصب رئيس الجمهورية، أسندت مسؤولية تولي تسيير البلاد إلى رئيس مجلس الأمة ، لكن ما حدث في الجزائر غداة الحراك الشعبي هو عدم إجراء انتخابات رئاسية في تلك المدة المحددة قانونا التي تمتد من 9 أفريل 2019 إلى التاسع من شهر جويلية 2019، رغم أنه تم تحديد موعد 4 جويلية 2019 موعدا لإجراء الانتخابات غير أن المجلس الدستوري حينها ألغى العملية لعدم توفر الظروف المناسبة، وبالتالي دخلت الجزائر رسميا في فراغ دستوري لا يوجد بشأنه نص قانوني يحدد وينظم كيفية تسيير تلك المرحلة، ما دفع بصناع القرار إلى تمديد ولاية رئيس الدولة السابق لمدة غير محددة إلى حين توفير الأجواء المناسبة لإجراء انتخابات قانونية، وهي القضية التي أسالت كثيرا من الحبر واختلفت فيها الآراء بين السياسيين وفقهاء القانون وأحزاب المعارضة وحتى المواطنين، لذلك حاول الدستور الجديد بالتعديلات المطروحة أن يغطي جوانب النقص في ما جاء في الدستور السابق، أسوة بعديد النقاط الأخرى ذات الطابع السياسي، ولعل هذا ما دفع بالسلطة لفتح ورشات كبرى ومشاورات مع الخبراء من أجل التأسيس لدستور يتماشى مع المستجدات الراهنة ويتكيف مع أي تغير قد يطرأ في الحياة السياسية بصفة عامة.