الكثير من فئة شعبنا لا يعرفون الحقيقة عن الثورة الجزائرية وما كانت تهتدي إليه في قيام وجودها، وما كان على المنظمين لها أن يوجدوها والعمل الذي ندبوا إليه، لأن الوضع الذي كا ن يعيشه الشعب الجزائري أثقل كاهله وأفقده الا ستعمار الفرنسي الشرعية القا نو نية المخولة له لضمان حياته وتمجيد تاريخه. وخلا ل فترة سنو ات الامتحان التي قضاها بين التهميش والتشريد والتعذيب والتقتيل وبين الوعود والتمنيات الاستعمارية الكاذبة والتحايل على القا نون والأعراف الدولية، إلا أن حسن الطالع على ما في المكنونات أبصر النور في قلوب فئة قليلة من الجزائريين الذين كانت لهم الغيرة الوطنية والقدرة والحنكة لتحمل عب ء مسِؤولية الشعب الجز ئري والخوض به في الاتجاه السليم لتغيير حالته الاجتماعية والنفسية والدفع به إلى الأمام دفعات قوية تجوز به فترة المخاض المملوءة بالقلق والاضطراب والتعسفات الاستعمارية قبل أن ينتهي به المطا ف إلى الذ وبان. وبعد ما أسسوا الأسس ورتبوا هياكلهم القاعدية، بدأوا في البحث والتنقيب عن القوانين والمراسيم التي تحمي الشعب الجزائري للوصول به إلى الغاية التي تنطلق بها الثورة التحريرية ؛ وفعلا . انطلقت الثورة بعد لحظات من انتهاء البيان الأول لجيش التحرير الوطني في الفا تح نوفمبر سنة 1954 كما جاء في هذه الفقرة إن الله مع المجاهدين المدافعين عن قضيتهم العا دلة، وليست هناك قوة يمكن لها إيقافها منذ اليوم ، فإ ما الموت با فتخار وإما تحرير الوطن وحتى لصبا ح الغد بقى السؤال بلا جواب يحير قادة القوات الاستعمارية، كيف تم تنظيم هذا الهجوم ؟ وكيف تم إعداده ؟ ثم بدأ المقاتلون يلتحقون بالجبال، والقوات الا ستعمارية تتلقى تعزيزات عسكرية، ولكن لا تنفع القوة أمام العقيدة الوطنية التي دفعت بالمجا هد ين إلى إنتصاراتهم في المعارك التي هزت جذور القوات الا ستعما رية الفرنسية والتي أصبحت تنظر إلى المجاهدين نظرة رعب وهلع رغم انتشار قواتها المكثفة بكل التعزيزات العسكرية والبوليسية زائد الخونة والمعمرين، إلا أن هذا لم يستثن من عزيمة المجاهدين فا زدادوا حبا للوطن وعزيمة في القتا ل حتى عمموا الثورة في ربوع الوطن وتجاوزوا بها مر حلة الخطر بعد مضي أربع سنوات من الكفاح المسلح، وإرغام فرنسا على تغيير مناهجها السياسية نحو الجزائر والتقرب إلى الحل الذي يرضي الجانبين تداعيات إيقاف القتال بعد مضيى أ ربع سنوات من الكفاح المسلح وما تابعها من لقاءات المفاوضين الجزائريين والفرنسيين لتقريب وجهة النظر والخروج بحل يرضي الجانبين ، إلا أن تعنت المفاوض الفرنسي زاد من التعقيد للأزمة وباعد المسافة السلمية بسده كل أبواب التقارب. ولذا كان على قيادة الثورة بعد فشل كل المحاولات السلمية المضيى بالثورة إلى الأمام والبحث لها عن منافذ جد يدة ليسمع صوتها وترسخ أهدافها في كل نواحي المعمورة وحتى في بيت العدو نفسه وبعد شروق السنة الخا مسة للثورة، وقد كا نت قد تجدرت في كثير من بلدان العالم، وبالأخص في الأممالمتحدة التي بدأت فيها الجزائر وثورتها تلمحان في أ فواه بعض الممثلين داخل الهيئة الأممية . وبدءا من الفصل الثاني للسنة الرابعة للثورة بد أ العكس التنازلي لفرنسا بعد مرحلة الاضطرابات النا جمة عن الحر ب الجز ائر ية وانهيار الجمهورية الرابعة وظهور الجمهورية الخامسة برئاسة الجنرال دغول تحت تأثيرات سيا سية وضغوطا ت عسكرية مع إنهيار اقتصادي وما إلى غير ذلك من الضغوطات العالمية التي كانت لها نظرة حقيقية عن الحرب الجزائرية القائمة بين الجانبين وما تقوم به فرنسا من انتها كات لحقوق الإنسان من كثرة الإبادة الجماعية والتعذيب وإباحة الحريات المطلقة لجيوشها والخونة والمتعاونين معها الرد بالمثل. وفي هذا السياق الرد بالمثل. تشكلت أول حكو مة جزائرية في السداسي الثاني من نفس السنة التي تكونت فيها الجمهوية الخامسة الفرنسية ليظهر لفرنسا والعالم أجمع، أن الشعب الجز ائري متماسك ومتصلب، وهنا ظهر لفرنسا بو ضوح أن الصراع مع الجزائر يين بدأ مر حلته الحا_____________________سمة وثورتهم تخطت المرحلة الصعبة، وعرفت كيف تقف على رجليها وعلى من تسند ظهرها من الخبرات التي اكتسبتها عبر الصراع، وهو ماشجع قيا دة الثورة بوضع استراتجية جديدة ونقل رجالاتها من ثو ار حرب إلى جيش منظم، وأسلحة جديد ة متطورة حسب مقتضيات العصر ونظم الحرب لأ نها كانت تدرك أن العدو يمتلك من الوسائل والإمكا نا ت قدرا كبيرا مما لا يمتلكه جيش التحرير الوطني، وهو مستعد لكل طارىء لتحويل الرأي العالمي لإ يجاد مخرجا للأزمة المنحصر فيها داخليا وخارجيا، غير أن يقظة قيادة الثو رة أحبطت كل محاولات العدو ومناوراته. الثورة يعاد بها إلى ما كانت عليه وبعد منح فرنسا وبلا جدوى استسلا ما وبدون شروط لجيش التحرير الوطني من خلال ما أ علنه الجنرال دغو ل في أكتوبر 1958 تحت إسم الأبطال (أو سلم الشجعان) لتمويه الرأي العام وتغطية عملياتها العسكرية المكثفة الضخمة في الجبال ضد جيش التحرير ووسائلها القمعية ضد المدنيين في محاولة لا نتزاع تلك السيطرة التي اكتسبها جيش التحرير بالجهد والدماء وتضحيات الشعب غير أن هذا الأسلوب الفرنسي الجديد عن الثورة غير كفة الميزان رغم حسابات قيادة الثورة، وهذا منطقي في الحروب فرّ وكر، فعادوا بالثورة إلى حرب العصا بات على ما كانت عليه، وفي حلة جديد ة من التنظيم والسلاح لتشمل كامل القطر الجزائري بما فيها الأماكن المكنوسة، لأن الأمر زاد تفاقما خلال هذه الفترة بلغ ذروته من شدة القمع البوليسي في المدن والخونة والمتعاونين في الريف والقرى، ونتيجة لهذا التخطيط الشالي الجهنمي نزحت أعداد كبير ة من المواطنين المدنيين إلى القطرين الشقيقين المغربي والتو نسي حتى تجاوز عددهم المليوني نسمة حسب تقديرات الصليب الأحمر فأصبح مصيرهم قلق العالم كله بعد ما زاد ا لأمر تفاقما من ممارسات السلطات الاستعما رية من تعذ يب وتقتيل وتشريد وانتهاك الحرمات وحقوق الإنسان، ورغم كل هذا فإنه لم يثني من عزيمة جيش التحرير الوطني وقيادته بقيا صامدين في وجه العدو والبحث عن الخطط المغيرة. جيش التحرير قوة صامدة وفعلا وقع التغيير في عمليات جيش التحرير الوطني وخططه القتالية فتفرقت الوحدات الكبرى ونقلت الفرق المتخصصة في حرب العصابات إلى جميع القطاعات وهي أحسن الفرق المدربة أحسن تدريب في هذا الميدان ، ونشاطها موجه للعمليا ت الكبرى، وجيش التحرير خلفها متواجد في كل المدن والقرى وفي كل أماكن العمليات زيادة عن نشاط الحكومة الدبلوماسي خارج الجزائر، والذي زاد تجسيدا لهذا النشاط في ندوة (أكرا) وندوة (منروفيا) مع قيام بعثات الحكومة بزيارات إلى البلدان العربي والإسلامية وغيرهما مثل الهند والصين، ويوغسلافيا، وباكستان، زيادة عن تكثيف عمليات جيش التحرير، والعمل الديبلوماسي للحكومة والضغط الدولي، أصبحت فرنسا في مأزق حرج، فما كان عليها إلا الاعتراف بحق الشعب الجزائري في تقرير المصير بدءا من السداسي الأخير من السنة السا دسة للثورة، وأخذ هذا الاعتراف العلني من السلطات الفرنسية تشجيعا للحكومة الجزائرية مما حملها على اقتراح فتح محادثات لإعادة حق تقرير المصير وإعادة السلم للجزائر فكان هذا الموقف الشجاع للحكومة الجزائرية تأييدا له من الرأي العام العالمي نظرا لتوافقه مع مقررات هيئة الأممالمتحدة ، إلا أن فرنسا لم تكن جادة في الأمر، فكانت من وراء ذلك تجري مناورات سياسية تجنبها المحادثات لتوفر الوقت للقضاء على جيش التحرير الوطني كقوة عسكرية وتدمير الحكومة وجبهة التحرير كقوة سياسية داخل البلاد وخارجها ، فكانت تقابل كل العروض الجزائرية بالتهرب والتملص من كثرة فشلها في الميدان العسكري فبقبت تبحث كيف تضل الطريق إلى الميدان السياسي والديبلو ماسي إلا أن الحكومة الجزائرية تفطنت لهذا التهرب، فاجتمع المجلس الوطني للثورة في دورته الثالثة بليبيا آخر السنة السا دسة للثورة في دورة مفتوحة زهاء شهر، ثم أعطى الضوء الأخضر مع بدء السنة السابعة للحكومة مع التأ كد بالثقة فيها بفتح مفاوضات جادة وصريحة على هذا الأساس. وفي نهاية السداسي الأول من السنة السابعة جرت اتصالات فرنسية جزائرية وكانت هذه الاتصالات في ندوة (مولان) التقى فيها الممثلون الجزائريون والفرنسيون فكان لفرنسا حسن النية في هذه الاتصالات التي تريدها في الواقع فرض » سلم الشجعان « لأن ديغول في ذلك الفترة كان بوسعه حل المسأ لة الجزائرية ليبرالية ومشرفة ، إلا أنه كان يشعر بالإ حساس السياسي مما يرفض الانضمام إلى الصيغة التي ختمت أواخر السداسي الأول من السنة الخامسة للثورة بصورة عفوية، لأنه كان يدرك أن هضم الجزائر وتمثلها قبل عشرين عاما قد تجاوزته الأحداث، فعلى فرنسا أن تقوم بمراهنات وتنازلات لتحصل على التسوية التي تريدها وتخرجها من الخندق الضيق، والتي هي في كل يوم خسارة ماديا و معنويا مع الضيق السياسي العالمى والإعلامي والذي زاد فرنسا حسرة لهيب الثورة الذي يزداد يوما بعد يوم ،مع طرح القضية الجزائرية من جديد في هيئة الأممالمتحدة ، وخروج الجماهير الشعبية إلى الشوارع حاملة العلم الجزائري مثل ماوقع في وهرانوالجزائر ومستغانم والبليدة وجيجل وغيرهم ؟ وكذا أصوات المعتقلين في السجون والمحتشدات حيث وضعت الجزائر في سجن كبير و أخص سجون فرنسا وحدها كان على مايزيد عن 15000 معتقل جزائري حيث كانوا على صوت واحد بتنفيذ الإضراب عن الطعام حتى تعترف لهم فرنسا بالنظام السياسي وبحقوق أسرى الحرب كل هذه كانت ضغوطات ونوافذ مسدودة على فرنسا. لا بناء فوق أرض الآخرين ومن هذه الدروس المستخلصة والانتصارات التي حققتها الحكومة الجزائرية وبدعم من جبهة التحرير الوطني التي أظهرت بأن ماكان لها من الهيبة والنفوذ في نفوس المواطنين الجزائريين ومن النباهة والتنظيم عند الرأي العام العالمي، أظهرت فرنسا في سياستها المتعفنة شيء من الليونة، وأعادت حساباتها السياسية في شخص الجنرال دغول الذي أعيد الجنرال شال إلى فرنسا وبدأت المفاوضات الجديدة مع الحكومة الجزائرية في ( مولان) مع ليونة الخطاب المعقب من الجنرال دغول يتحدث فيه عن الجمهورية الجزائرية فكان الأمر جادا وحقيقي في المفاوضات بإنقاذ الشيء الأساسي للجزائر. ويأتي خريف السنة السابعة من عمر الثورة وتبدأ المفاوضات الجدية بين الطرفين حيث أصبحت هذه المفاوضات ممكنة نظرا لتطور الوضع ليس داخل الجزائر فحسب بل في فرنسا ذاتها وفي العالم، وبدأت هذه المفاوضات في سرية تامة وبعيدة عن كل الأنظار، نظرا لما كان يترصدها من التعقيدات والمشاكل . لكن الإرادة الحسنة لكلا الجانبين توصلا إلى ما يرضي الشعبين رغم صعوبات الموقف الذي آل إليه المتطرفون الفرنسيون في الجزائر بتشكيلهم المنظمة السرية الإرهابية تحت إسم الجيش مناهضة للسلم ومضادة للثورة الجزائرية. وعبر كل هذا إستمرت المفا وضات بين فرنساوالجزائر وتطورت بصورة حثيثة بين الوفدين في قرية (روس) بجبال (جوران) بفرنسا وفيها ضبطت كل الخطوط الكبرى للاتفاقات الفرنسية الجزائرية. وفي نفس السداسي الأول من السنة الثامنة إجتمع المجلس الوطني في دورة بليبيا وفوض للحكومة بإ تمام هذه المفاوضات واجتمع الوفدان في ( إفيان) لمناقشة ماتبقى من المفاوضات وبعض الأمور العالقة مع مناقشة الا تفاقات التي حصلت في بروس ونهاية اتفاقيات إفيان، ومنها قرر الوفدان وبكل نزاهة وإخلاص إيقاف القتال يوم 19 مارس سنة 1962 وهكذا وصلت الثورة إلى غايتها المرجوة بتحقيق هدفها الذي ضحى من أجله أكثر من المليون ونصف المليون شهيد زيادة ماخلفته هذه الحرب القذرة الاستعمارية الفرنسية من مجارح وأمراض نفسا نية وبؤر اجتماعية يتأنب لها الضمير الإنساني على وجه المعمورة وبهذا الاعتراف الذي حققته الثورة إنهار كل هيكل غير مِؤسس وقيم فوق أرض الجزائر الطيبة الطاهرة وزال معه ذل وعار 130 سنة من عمر التاريخ الاستعماري وفي نفس اليوم صد رالبلا غ الرسمي من قيادة جيش التحرير الوطني إلى كل القوات بعد التأكد من التصديق على محادثة إفيان ، فأ ذيع البلاغ على أمواج إذاعة صوت الثورة فكان كالبرق الخاطف عم الكرة الأرضية فسمعته الصفوة الصالحة المتعشقة للحرية والاستقلال وباركته وباركت للشعب الجزائري بهذا النصر العظيم، وبه صمتت الأسلحة ونارت السجون والدهاليز وحتى لا يفوتك قارئ الكريم، هذه مقتطفات من بيان قيادة أركان جيش التحرير الوطنى يوم 19 مارس 1962 لإيقاف القتال إن وقف القتال ليس هو السلاح، وكما أن السلا ح ليس هو الاستقلال ، فإن الاستقلال ليس هو الثورة ،أي أن المعركة مازالت مستمرة وستكون أكثر ضرورة وأكثر تعقيداو ذلك أكثر من أي وقت مضى إن الطريق الذي سيوصلنا إلى الأهداف الأساسية للثورة ما يزال طويلا وهو خطير، لأنه مزر وع بالعراقيل والعقبات المصدرة. فلنعرف كيف نسموا بأنفسنا إلى مستوى هذه الحقيقة السامية ولنضم الصفوف ولنبقى ثابتين ويقظين