نحن الجزائريين، كبرنا مع فلسطين وكبرت فلسطين فينا، أتذكر والدي الجزائري ابن ندرومة، وهو من الجيل الذي فاجأت شبابَهم النكبةُ،حين كان شابا يافعا يعجُّ وجدانه بالأحلام ، والدي الحبيب، لم نكن نتجرأ في حضرته ذكر كلمة إسرائيل للدلالة على فلسطينالمحتلة ، ذاك كان يغضبه وهو الجزائري الذي لا يقبل التطبيع حتى داخل ظلمة دواليب اللغة ، فهمت منه درسه النبيل وهو أن الجزائري يجب أن يقف مع المظلوم دون حساب للفِلْسِ في الربح أو الخسارة دون حساب للغة أو عقيدة ، فلسطين إذن هي إرث الجزائريين بامتياز، يتناقلون جيناته جيلا عن جيل، ولأن ( ما يحس بالجمرة غير اللي مكوي بيها) كما يقول المثل الجزائري، فإن حرقة الاستعمار يفهمها من اكتوى بنارها ويشعر بألمها، لم أطرح على نفسي أي سؤال إذ وجدت فلسطين قد "احتلت" مكانا كبيرا في مساري الأدبي، فقصائدي الأولى كانت عن فلسطين، ووقوفي على الركح أول مرة في مسرحية الكوليج كانت عن فلسطين، والأغنية الأولى التي سجلتها بالجزائر كانت رسالة سلام للطفل الفلسطيني، والمهرجان الشعري الأول الذي نظمتُه وأشرفتُ عليه، أهديتُه للأديبة الفلسطينية الكبيرة فدوى طوقان، والملتقى ثلاثي الريشات الفريد من نوعه الذي نظمتُه وأشرفتُ عليه و قد جمع الموسيقيين والشعراء والفنانين التشكيليين،أهديتُه للكاريكاتوريست الفلسطيني ناجي العلي، وقام الفنان الكبير مصطفى الحلاج بإهدائي غلافا بلوحتين له لإحدى لمجموعتي الشعرية و هي "كيف الحال.!؟"، ثم لا تخلو كتبي الشعرية والروائية من بوح مضمر أو مجهر يغنّي للحرية لهذا البلد المستعمر. لم يكن شيئا غريبا أن تجمعني قراءات شعرية ولقاءات فكرية وأدبية مع منشدي الحرية من الشعراء والأدباء والفنانين الفلسطينيين مثل صديقي الكبير الشاعر محمود درويش، والشاعر خالدأبو خالد، والشاعر عزالدين المناصرة، والشاعر أحمد دحبور، والأديب الروائي الكبير يحيى يخلف، و القصاص المبدع توفيق فياض، والفنان محمود شاهين، والناقد المتميز يوسف اليوسف، وحسن م يوسف ... ، إلى الآن كلما صدر لي كتاب جديد إلا وتلقيت جميل التهاني منهم، وأنا طالبة في جامعة دمشق، كنت أرى في مخيم فلسطين الرابض على أطراف دمشق القريبة من فلسطين، أنه الخيمة الأخيرة للأدباء والشعراء والفنانين الفلسطينيين، و ماهم سوى في تجمع كبير متأهب ينتظر فقط صفارة انطلاق قطار العودة، كنت أتخيل المخيم الفلسطيني بكل ما فيه مثل حقيبة عملاقة نصف مغلقة تستعد للسفر، تتأهب للرجوع للبلد..نعم كانت دمشق كلها تبدو المخيم الأخير قبل الرجوع الأخير..لكن دمشق حقيبة الشعراء والمثقفين والفنانين الفلسطينيين العملاقة، تناثرت أشياؤها وكتبها وأوراقها وطارت وتشتت في أنحاء القارات وبلدان الدنيا ، لم يعد المخيم الفلسطيني يهدد الاستعمار الإسرائيلي من على بعد كيلومترات، إنه يهدده من نقاط جديدة في العالم . لم يعد المخيم الفلسطيني وحده من يقض مضجع إسرائيل . المخيمات المختلفة تتمدد عبر الخارطة الجغرافية،لأن الخارطة البشرية المنزلقة مثل الطين والمتحركة مثل كثبان الرمل تحت الريح العاتية اللعوب، في طريقها نحو التحول . سيصير العالم كله مخيمات. تتداخل فيه الأجناس والألوان والأديان واللغات واللهجات والعادات .عالم يبدأ من الصفر:صِفْر وسِفْر التكوين. في انتظار العالم الجديد الذي تتشكل معالمه قليلا قليلا، أعود لأقرأ صديقي محمود درويش وهو يودع خيمة أخرى: بيروت خيمتنا الأخيرة ! .