بقعة بحجم قلب محب تتسع لزرقة السماء ولجنون الشعراء وطيش القصائد.، خلال أيام معدودة كانت الحياة تتسع لأزمان مديدة هبت فيها رياح الشعر وأمواج القصائد وشلالات المحبة. فيها من الخضرة ما يكفي لعواصم عديدة ومن الزرقة ما يكفي للسماوات القادمة. « الدوسن « عاصمة الخضرة. واحة الحياة والشعر. كل بقعة تمر بها تنبت فيها شجرة محبة وارفة تظل الغريب والمهاجر. كانت الطريق شيئا يتجه إلى الداخل والجبال إلى العلى والجنوب يسير إلى المستقبل. أما الوصول إليها فكان محطة صاخبة على ضفاف القصيدة. كل شيء يجري على أرض صلبة لكنه يحيل على الخرافة والسحر والأسطورة. حكايات الفرسان والشعراء وقصص الرعاة والرحلة نحو الشمال واجتهاد الفلاحين والصناع وتمسك السكان بتقاليد راسخة في خدمة الأرض واحترام قواعد المعاملات. شخصية صلبة وعزيمة لا تلين. قصص كثيرة وطريفة تروى هنا. خصوبة الخيال من خصوبة التربة. لذلك كانت القصص تشبه بساتين النخيل وتحاكي السواقي بين أحواض الخضر. بداية بتلك القصة التي ترويها الشفاه وكأنها تحاذر أن يسمعها أحد. نال أحد شباب الدوسن جائزة وطنية في الشعر وحاول إكرام زملائه الشعراء بأمسية شعرية في المدينة باقتراح من مؤسسة مرموقة. بذل قصارى جهده لكن المؤسسة المنظمة خذلته في نهاية الأمر. لم يحزن ولم يغضب ولم يثر. بل ابتسم. هكذا يفعل أهل الدوسن. يبتسمون إذا عزموا على شيء. لم يشأ أن يخيب أمل أصدقائه من كل ربوع الوطن الحالمين بزيارة المدينة. فما كان منه إلا أن حول الأمسية إلى بلدته معتمدا على طيبة أهله وواثقا من الخير المتأصل فيهم. أنفق مبلغ الجائزة على إقامة الشعراء في الفندق. أما الإطعام فتكفل به أهل المدينة: الشخشوخة والكسكس هو الطعام اليومي لكل أهل البلدة. وبدلا من أمسية واحدة مدد النشاط لعدة أيام. وتوسعت الدعوة لتشمل شاعرا من تونس وآخرين من بلدان عربية أخرى. وبعدها مباشرة فكر في تأسيس هذا الفعل وجعله دوريا. فاتخذ عنوانه: جمعية بسمة للثقافة. خذلته مؤسسات العاصمة المناهضة للثقافة فاكتفى بتحويل بلدته إلى عاصمة ثقافية. لم أجد لهذا الفعل عنوانا سوى كلمة دوسن. هذا هو معنى الدوسن. هل تعرف له معنى آخر؟ كانت الأجواء مناسبة لمخاطبة الشعراء والتحاور معهم بمحبة وعمق. كائنات جميلة لكنها تختصر قلق الناس والحجارة والشجر والغزلان. أرواح تحتاج إلى من يحاول أن يفهم لغتها وأن يرى بعيونها. هكذا الشعراء. فمن يرى البعيد في رؤاهم ويسمع الغائب في كلامهم ويفهم الغامض في نصوصهم؟ الدوسن احتضنت كل هذا بمحبة. خمسة أيام كاملة في ضيافة الشعر. دخل الشعراء بيوت السكان وأكلوا من طعامهم وشربوا من شرابهم مع أهلهم. وسكن أهل المدينة قصائد الشعراء وقلوبهم إلى الأبد. بيوت مأهولة بالشعراء وقصائد مأهولة بالسكان. لا يمكنك الفصل بين الشعراء والجمهور. فمعظمهم شعراء. تراهم شبابا يتولون العمل ويسهرون على خدمة الحاضرين فتحسبهم من المنظمين ثم ينادى عليهم من المنصة فيبدؤون في إلقاء الشعر من الذاكرة دون تحضير ولا تأنق. وفي ميدان الفروسية نودي عليهم فامتطوا جيادهم وانطلقوا في المضمار. الشعر في خضم الحياة. الحياة في ثنايا الشعر. هذا أيضا من معاني الدوسن. هل تعرف له معنى آخر؟ تمر السحابة نحو الشمال تمر السحابة نحو الشمال فأغمض عيني وأفتح أفق السؤال لماذا تمر السحابة وتتركني أتجمع تحت رذاذ الكتابة؟