يبقى محمود درويش (13 مارس 1941 – 9 أوت 2008) حالة شعرية عربية وعالمية عصية على التزمين والتأطير، ذلك أنها امتلكت من العبقرية والخصوصية ما يجعل حياتها تتجاوز التجييل لتحلّق عالياً بعيداَ عن التنميط، إذ أن (الوطن والثورة والحب) قد تجلت موضوعياً مقامات شعرية متماهية بقصيدته، في تجربة لم يسبقه إليها أحد من الشعراء، وقبل هذا وذاك فإن شعريته في علاقتها بمبناها ومعناها، مثلّت تجربة فريدة ترميزاً وتكثيفاً للقول والصوت معاً، والتعبير والتصوير في علاقتها بالحالة العربية. هو شاعر فاض وانداح بقصائد أشبه بقلائد محمولة بأحلام وأحزان الذات (الخاص) تجاه الوطن (العام)، واستطاع أن يمنحها تجليات رؤيته الإنسانية مسكوبة في أقنية غير مألوفة، متميزة في علاقتها الحزينة بالجمال بمعانيه الجديدة، لدرجة أننا نجد في تلك القصائد، على علاقتها بغربته ووطنه، حكاية كل منا مع الذات والأم والحبيبة والأرض والحلم، وقبل ذلك الوطن، بل نجدها كأنها أغانينا التي ننتظرها منذ زمن. دراسات كثيرة تناولت تجربة هذا الشاعر وما أسهم به في تطوير الشعرية العربية الحديثة، لاسيما على صعيد منحها قدرات حيوية، جددت من علاقتها بالناس والحياة، من خلال ما بثه في روحها من محمولات جمالية ثقيلة الوزن ورمزية جديدة متجددة زادت في أمدية تأويلها، وعززت من إمكاناتها التعبيرية وجمالياتها الفنية، واستطاعت من خلالها أن تتجدد عبر قراءات متعددة تعشق ذلك الإمتاع الكائن في الصوت والنغم المتدفق من جمال التكوين البنائي؛ وهو الجمال الذي مصدره تلك الروح المتوثبة صوتاً في موضوعه، بل يمثل ذلك (الصوت الروح) منصة جديدة تكتسب من خلاله قصيدة درويش مستوىً جديداً من مستويات الشعر القابل للحياة والمتماهي معها في آن؛ ليبقى عصياً على تأطير شعريته بين (حاصرتين). من بين الكتب والدراسات والحوارات التي تناولت تجربة درويش… ثمة كتاب صغير في الحقيقة، لكنه يمثل تجلياً موازياً لتجليات تجربة درويش الشعرية، ليس لأنه تضمن حواراً صحافياً كتبه بخط يده، وهو الذي كان مقلاً في الحديث إلى الصحافة، إلا أن ما جرى بينه والصحافية اللبنانية إيفانا مرشليان، على هامش ذلك الحوار ربما كان أهم من الحوار نفسه؛ بل لقد استغرقت تلك الأحاديث الجانبية من صفحات الكتاب أكثر مما استغرقه الحوار ذاته… قد يكون الكتاب وصلني متأخراً لكن هذا لا يغني أن تكون ثمة قراءة، ولو ظهرت متأخرة، لكنها تعكس انطباعاً وانفعالاً رأيت كتابته واجباً. لقد دونت الكاتبة ما دار بينهما من أحاديث خلال زياراتها لمنزله وتنزهاتهما في شوارع باريس قبل استلامها منه نص الحوار مكتوباً، وقد تناولت تلك الأحاديث الجانبية كثيراً من القضايا ومواقف الشاعر منها، وكشفت عن العديد من عوالم حياة الشاعر، بما في ذلك علاقته بمنزله والمدينة والطعام والقهوة والكتاب والكتابة، وغيرها من التفاصيل الصغيرة والعناوين الكبيرة التي قد تبدو هامشاً في الكتاب تمثل فيه تقديماً للحوار، لكنها في الحقيقة، ومن وجهة نظري، تمثل متناً موازيا لنص الحوار. كان درويش، وهو يتحدث إلى الكاتبة على طاولة الطعام، أو خلال مرورهما في شارع ما أو خلال تناولهما القهوة… يعرف أنها ستدون، لاحقاً، كل ما كان يدور بينهما، وقد أخبرته بذلك – أيضاً- وفق ما ورد في الكتاب، بل إنه كان يدرك أن ذلك الحوار سيتجاوز مسألة النشر الصحافي، إلى نشره في كتاب يتضمن كل تلك الأحاديث؛ ولهذا قال مخاطباً محاورته عند تسليمها مخطوطة الحوار «أهديك هذه المخطوطة… حافظي عليها جيداً وتصرفي بها في الوقت المناسب». لم تكن إيفانا، وكانت حينها محررة ثقافية في المجلة الدولية الباريسية، تدرك الأهمية القصوى للخطوة التي كانت مُقدمة عليها، وهي تزور الشاعر في منزله الباريسي في الموعد المتفق عليه لإجراء الحوار. لقد كانت تعتقد، حينها، أنها ستفوز بحوار صحافي مع شاعر كبير، ولم يخطر في بالها أن هذه الخطوة ستقودها لاكتشاف بعض عوالم هذا الشاعر، خلال زياراتها له لأجل ذلك الحوار؛ لتجد نفسها، خلال تلك الزيارات، في أتون تجربة اقتربت فيها كثيراً من عالم هذا الشاعر. كانت إيفانا ذكية، بلا شك، في تدوين ما كان يجري بينهما من أحاديث جانبية، قبل أن تستلم نص الحوار مكتوباً، وتحول، لاحقاً، إلى كتاب نُشر تحت عنوان «أنا الموقع أدناه محمود درويش»، واكتفت المحاورة بأن تضع اسمها موقعاً بكلمة “بحضور”. استهل الكِتاب بمخطوطة التعهد التي التزم بموجبها الشاعر بتسليم نص الحوار في الموعد المتفق عليه بينهما، وكان اختياراً موفقاً أن وضعت صورة تلك المخطوطة في مفتتح الكِتاب… وقد اُخِذ من نص ذلك التعهد عنوان الكِتاب. استعرضت إيفانا مرشليان، يوميات لقاءاتها بدرويش منذ نوفمبر 1991 عقب أمسية قرأ فيها بعضا من ديوانه «أرى ما أريد»، ومن ثم كان اللقاء التالي في منزله الكائن في ساحة الولاياتالمتحدةالباريسية، والمطلة من طبقته الخامسة على برج إيفل. واستعرضت إيفانا ما جرى بينهما حتى تمت الموافقة على الحوار واستلام الأسئلة مكتوبة وتحديد الموعد لاستلام الإجابات، وحتى تم تسليم الإجابات كانت اللقاءات بينهما كاشفة لبعضٍ من جوانب من حياة وتجربة هذا الشاعر، وخلال تلك الأحاديث التي اُستهل بها الكتاب تكشف إيفانا عن مدى وعي الشاعر الإنساني وثقافته الواسعة وتجربته الخاصة مع القصيدة وعلاقته بالشعر وبفلسطين والأرض والوطن والأم، إلخ. كشف درويش في تلك الأحاديث العديد من المواقف، بما فيها أسباب إقلاله من المقابلات الصحافية «حتى مقابلاتي قبل ذلك التاريخ كانت نادرة. أحياناً، أتجنب الوقوع في مطبات الأسئلة الجاهلة لدقائق الأمور والتفاصيل والحقبات» يقول درويش. كانت تلك الأحاديث مدهشة في ما كشفته، ولكل منها أهميته، ومن تلك الأحاديث ذلك الحديث الذي جرى خلال ذهابهما للعشاء في مطعم صيني في باريس، وخلال الطريق تحدثا عن المطر وعلاقة الناس بباريس، وهناك كان حديثه عن موقفه من النقاد: «الشعر لا يحمل معنى واحدا… يعبر الشاعر، أحياناً، عن أفكار كثيرة مستخدماً لها عبارات قليلة، لكن النقاد نادراً ما يكتشفونها، النقاد المحترفون اليوم يهتمون بشكل مقالاتهم أكثر من مضمونها». وأضاف» النقاد صايرين مفذلكين ومقالاتهم صعبة، إذا أنا ما أفهمهاش، كيف الناس العاديين بدن يفهموها؟»، متحدثاً بلهجته الفلسطينية القريبة من اللبنانية، ربما حرصاً منه لتفهمْ إيفانا كلامه. كما اعترف في هذا الحديث أن (النقد والغناء) خدماه وقرباه من الناس أكثر. ومن أجمل اعترافات درويش هنا أنه كان يحلم أن يكون رساماً، لكنه صار شاعراً لأنه «ما كان معي ثمن الألوان… كان أسهل عليّ أحصّل الورقة والقلم وأكتب». كان درويش عاشقاً للفن بكل أطيافه، خاصة الفن التشكيلي، ولهذا كان يتردد على المعارض ويقتني من بعضها لوحات ليزدان بها منزله. ارتبطت قصيدة درويش بالغناء كثيراً، وتغنى ببعض قصائده عددٌ من الأصوات العربية، ولعل أبرزهم هو الفنان ذائع الصيت مارسيل خليفة… وتحدث درويش بإعجاب عن تجربة مارسيل مع قصيدته، قائلاً عنه: «لقد منح قصائدي فرصة حياة مختلفة وحررها من العيش المؤبد بين دفتي كتاب». كانت لدرويش علاقة خاصة بالطعام؛ فهو عادة ما كان يأكل الطعام العربي «بل أرغب في اكتشاف الأطباق الجديدة ولو كانت صينية!» يقول. ارتبط هذا الشاعر بعلاقة مختلفة بالمدن وتنقل بين عددٍ منها قبل استقراره في باريس التي أحبها، وكان سعيداً جداً فيها «إنها مرحلة غريبة ومهمة في آن، فيها الجمال والتأليف والوحدة والهدوء والكسل الجميل، باريس مثالية للكُتّاب وكنت أكون أكثر سعادة لولا السؤال: ماذا بعد باريس؟ وحتى أنتِ سيقلقك السؤال عينه: ماذا بعد باريس؟»، متمنياً أن تكون فلسطين هي وجهته المقبلة بعد باريس. ومن المدن تمتد العلاقة ليتحدث عن علاقته بأمه وهو حديث مليء بالشجن، وهو يتحدث عنها بمحبة، وقال إنه يشببهها في سخريتها. يتحدث كثيرٌ من النقاد عن قصائد درويش، ويشيرون إلى ما يرون أنها تحمله من حزن، بدءاً من ديوانه «يوميات الحزن العادي»، وهنا توقف الشاعر متحدثاً أن «يوميات حزني العادي لم تكن حزينة بالمعنى التراجيدي. كل ما أكتبه من قصائد لم يولد من حزن أسود، بل من فرح غامض حزين لم يفارقني أبداً حتى هذا العمر». حتى في طفولته «لم أكن أشبه يوماً الأطفال المهجرين، ظننتها مغامرة صعبة ونجتازها قريباً. الأطفال في قوافل التهجير لا يهابون المخاطر كالآباء والأجداد»، وقال إنه كان طفلاً سعيداً في فلسطين، ثم في لبنان «كانت حياتنا صعبة، وإنما ممكنه وغير مستحيلة. ذكرى الخسارة أصعب من حياة الخاسرين». كان أشد ما يحزن الشاعر هو عدم قدرته على ترتيب علاقاته بالطريقة التي يتمناها، فهو يمكن أن يتخلى بسهولة عن أشخاص رائعين يحبهم فقط؛ لأنه غير قادر على الاحتفاظ بهم، أو الاستمرار معهم، وهذا يحزنه «لأن كل ما يتحقق لا يعود حلماً… الشاعر أو الفنان يختنق خارج الحلم». تناول الحوار علاقة الشاعر بالأرض باعتبارها الأم الأولى، متحدثاً عن كونه يحنّ للعودة إلى بيت الأرض الأول أو أرض الأرض. كما تحدث عن أمه «أمي هي إمي». مستغرقاً في تناول سؤال الموت «الذي يحوله إلى لعبة متعددة الوجوه وفي مقدمتها الوجه الرمزي. لكن الموت هو الموت. والموت الحقيقي أكثر من الشعر الذي أعد نفسه منذ بدايته لمصارعة الموت. لقد جربتُ آلام الموت وجربتُ الموت، أيضاً، فوجدته سهلاً… ووجدتُ أن ما يوجعنا في الموت ليس هو الموت، بل آلام الموت. لقد تألمت ساعات قبل أن أنام هادئاً على قطن أبيض، ولكن حين عاد إليّ الوجع انبأني طبيب القلب بأن ذلك الوجع كان وجع العودة إلى الحياة، بعدما توقف قلبي عن العمل لمدة دقيقتين». وقال درويش إن المصادفات هي وحدها التي تنقله من أرض إلى أرض، «لكن الأرض التي اخترت أن أعيش فوقها هي الأرض التي أورثني إياها أجدادي كما أورثوني لغتي… هي أرض فلسطين، أرض أبي وأمي وأرض قصائدي”. معرباً عن الندم على خروجه من حيفا، «على الرغم من أن قرار خروجي لم يكن حراً. نعم كان ينبغي عليّ أن أبقى في السجن هناك حتى لو كتبت شعراً ذا قيمة أقل». وكم كان حديثه عن القهوة شيقاً، خاصة وهو يقول،» القهوة الأولى هي أول دقيقة في الوقت. قبلها يكون الزمن نائماً. قبلها يكون كل شيء في حالة موت». مؤكداً علاقته المختلفة بالشعر، «لأنني أستطيع أن أقول فيه وأن أفعل فيه ما لا أستطيع قوله أو فعله خارج الشعر… لا أستطيع في القصيدة إلا أن أكون حراً. ولا أستطيع أن أكون حراً إلا إذا كنت عارياً تماماً من الأقنعة، ومن الأهداف ومن التقاليد ومن الحرية ذاتها”. ومن ضمن محطات الحوار توقف درويش أمام ادعاء «المصادفة التاريخية والسياسية التي تكون عاملاً في إبراز الشاعر دون سواه»، وكأن قدره في أن يكون فلسطينياً قد كان سبباً في إبراز تجربته الشعرية… وهنا ردّ قائلاً،» لقد ولدتُ من أب وأم عربيين على أرض فلسطين. فلماذا أحارب هذه المصادفة؟ لماذا أحتج، لماذا أشكو من هذا الإرث؟ لعل في التاريخ من القسوة ما يجعل وارث الأرض وارثاً للصليب أيضاً». مؤكداً «أن انتهاء المأساة الفلسطينية لا يوقف سؤال الإنسان الفلسطيني عن هويته الثقافية، وعن دوره الإنساني وعن وجوده ولا ينهي السؤال الإنساني في الإنسان. إن الإنسان فينا لن يموت عندما نتحرر، ولكنه سيجد مكانه الطبيعي لكي يتطور. وهناك سنجد المناخ الملائم لقراءة الشعر وكتابته ومحاكمته بأدوات أكثر جمالية وأقل وطنية بالمعنى الرائج للكلمة». وكم كان مدهشاً وهو يرد على سؤال عن مدى خوفه من خيبة الأمل، وخوفه على قصائده، إن هي بقيت أجيالاً معلقة فوق آمال العائدين وخيباتهم. قائلاً «كأن علينا أن نركّب عقلاً آخر لكي نتحمل صدمة المفاجآت، ولكي نتكيف مع متطلبات فهم العالم الفوضوي الجديد… ومع ذلك مازال في وسعي أن أحلم، مازال في وسعي أن أواجه صدمة الواقع بصدمة شعرية هي الوحيدة الكفيلة بتبرير حياتي”.