للإعلام العلمي دور مهم ومتميز في نشر الثقافة العلمية وتبسيط العلوم، وقد حققت الدول المتقدمة تقدمها ونهضتها نتيجة اهتمامها بالعلوم ونشرها على نطاق واسع، وإدخال مفهوم “العلم كثقافة”، من خلال إعلام علمي متميز يؤدي للتواصل المستمر بين الحركة العلمية والجمهور غير المتخصص، حتى أصبح الحديث في الشأن العلمي يشمل مفردات المعيشة اليومية لعامة الجمهور. ولهذا نجد أن الدول المتقدمة المنتجة للعلم، تعيش ازدهاراً مستمراً في نوعية وعدد المطبوعات والبرامج العلمية التي تهدف لتنمية الوعي العلمي لدى أفراد المجتمع. فالعناية بالبرامج العلمية تشغل دائماً حيزاً كبيراً في تفكير أفراد ومؤسسات المجتمع، لإدراكهم لدور وأهمية الإنجازات العلمية والتكنولوجية في حل مشكلات الفرد والمجتمع. وتسعى الدول المتقدمة دائما لإعداد الإعلامي العلمي المتميز، الذي أصبح عملة نادرة الآن، وهو إما عالم أو صحفي كفء، يحمل الخلفية المناسبة التي تمكنه من تقديم وتبسيط الحقائق العلمية للأفراد وبخاصة غير المتخصصين، وفي نفس الوقت يستطيع الربط بين العلوم والتكنولوجيا وجميع مجالات وقضايا الحياة الأخرى في المجتمع من اجتماعية وسياسية واقتصادية وأخلاقية وغيرها، وبخاصة العلوم الحديثة، ومن بينها حالياً: النانوتكنولوجي (التقنيات المتناهية في الصغر)، والروبوتات والذكاء الإصطناعي، والواقع الإفتراضي، والعلاج الجيني والخلايا الجذعية، وهندسة الأنسجة وطب التجديد، والجينوم البشري، والبيولوجيا الإصطناعية، والتغيرات المناخية، وغيرها. بينما نظرة سريعة لواقع الإعلام العلمي في عالمنا العربي، نجد أنه مظلوم، حتى الآن لم يتم إنصافه. فالعلم يظهر دائماً على استحياء في وسائل الإعلام العربية، كما أنه ما يزال محدوداً وقاصراً عن اللحاق بركب التَّقدم العلمي والتكنولوجي المتسارع في العالم، وما زال المفهوم التقليدي للثقافة محصورا لدينا في مجالات الأدب والتاريخ والتراث والفنون والسياسة والرياضة. كما أن الأخبار والتقارير العلمية أقل من الحاجة المطلوبة، وأغلبها يقتصر على ترجمات من مصادر أجنبية، والترجمات تعاني من قصور شديد، فقد يتم إغفال بعض الفقرات المهمة، أو يحدث أخطاء في الترجمة أو عدم ذكر مصادر الموضوعات المترجمة، وقد يكون مر على الموضوعات المترجمة عدة شهور أو سنوات. وبالتالي لم ينجح الإعلام العلمي العربي في أداء دوره المنشود في نشر الوعي العلمي بين عامة الجمهور. وقد يرجع ذلك لغياب المناخ العلمي العام، الذي يساعد على استيعاب مفاهيم العلم والتكنولوجيا الحديثة. كما أن نظم الإعلام العربية تخلو من الكفاءات العلمية القادرة على القيام بدورها. فالإعلامي العلمي العربي لم يتم إعداده وتدريبه بصورة كافية لأداء مهنته وكيفية اتصاله وتواصله بالجماهير، وهو ما يدخل ضمن مجال حديث ومهم يعرف ب”التواصل العلمي”. فكليات الإعلام قد لا تهتم كثيراً بإعداد الإعلامي العلمي المتخصص. فالبرامج العلمية في الإذاعة والتليفزيون تعاني من غياب المحرر العلمي الكفء، كما أنها عاجزة عن إعداد برامج وأفلام علمية متميزة تعبر عن بيئتنا العربية وتثير في المستمع أو المشاهد الرغبة الحقيقية في معرفة طبيعة وأسرار العلم والتكنولوجيا. وما زالت تغطية أخبار العلم والتكنولوجيا في وسائل الإعلام العربية عموماً أقل مما يجب، ولا تلاحق اتجاهات العلم والتكنولوجيا الحديثة، وقد لا يملك الإعلامي العلمي الخبرة الكافية لتغطية مجالات علمية مهمة وحديثة، وهو في الوقت نفسه مقيد بجدول زمني ومساحة صغيرة، ولغة مبسطة يفهمها الجمهور غير المتخصص. ومع الحراك الحالي والمتزايد الذي يشهده الآن قطاع العلم والتكنولوجيا والبحث العلمي في عالمنا العربي، متمثلا في ظهور مشروعات وخطط علمية وبحثية جديدة، وعقد للمؤتمرات العلمية الدولية في مجالات حديثة، لم يعد كافياً فقط أن يقوم الإعلام العربي بنشر وإذاعة أخبار أو مادة علمية من هنا أو هناك، أو تغطية علمية قد تكون سريعة وقاصرة للمؤتمرات من خلال نشر البيانات والتصريحات الصحفية التي تصدرها الهيئات والمؤسسات العلمية المنظمة لها والتي تتناولها وتكررها الصحف، أو إصدار صفحات علمية فقط، قد يتم تحريرها على عجالة، بل لا بد من تأسيس إعلام علمي له رؤى جديدة ورسالة واضحة المعالم والأهداف تتبناها المؤسسات الصحفية وتساهم فيها، جنباً إلى جنب الجامعات والمراكز العلمية والبحثية لتحقيق نهضة علمية واعدة. ومن واقع خبرتي وتجاربي الصحفية في الصحافة العلمية وبخاصة في صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية، حيث كتبت فيها التقرير العلمي والخبر العلمي والرأي العلمي، كما أجريت العديد من الحوارات العلمية الحصرية الجادة مع علماء عرب وأجانب، أمثال، الدكتور أنتوني عطا الله، مدير معهد طب التجديد في جامعة ويك فوريست في مدينة وينستون – سالم بولاية كارولينا الشمالية الأميركية، والذي يعد أحد أبرز رواد العالم في مجالي طب التجديد وهندسة الأنسجة، وجيسون بونتن، والذي تولى رئاسة تحرير ونشرمجلة «إم آي تي تكنولوجي ريفيو» الأميركية في الفترة (2005-2017)، والدكتور فاروق الباز، مدير مركز الاستشعار عن بعد بجامعة بوسطن، والدكتور منير نايفة، أستاذ الفيزياء النظرية والنانوتكنولوجي بجامعة الينوي الأميركية، والدكتور فتحي غربال أستاذ الروبوتات والانظمة الذكية بجامعة رايس الأميركية، والدكتور عمر ياغي، أستاذ الكيمياء والكيمياء الحيوية بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس، والدكتور شارل العشي، المدير السابق لمختبر وكالة ناسا للدفع النفاث، وأستاذ الهندسة الكهربائية وعلوم الكواكب بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، والدكتور جيم الخليلي، رئيس جمعية العلوم البريطانية وأستاذ الفيزياء النظرية والمشاركة المجتمعية في العلوم بجامعة سري البريطانية، والمذيع التلفزيوني، وغيرهم، وقد أثنى العديد من القراء والمتابعين على هذه المقالات والتقارير والحوارات، من خلال ذلك أستطيع القول بأن الإعلامي العلمي الكفء ما زال عملة نادرة في عالمنا العربي، وبخاصة مع تعدد التخصصات والمجالات العلمية الجديدة، حيث لم يعد كافياً فقط أن يكون هناك صحفي علمي يتناول ويغطي جميع التخصصات العلمية، بل أصبحت هناك ضرورة كما يوجد في الدول المتقدمة أن يكون لدينا صحفيون علميون متخصصون في مجالات علمية محددة. ففي الصحافة العلمية في الدول المتقدمة نجد صحفيا متخصصا في شؤون النانوتكنولوجي أو في البيئة، أو في تقنية معلومات أو في الصحة أو في الغذاء، إلى غيره من شؤون وتخصصات علمية وتكنولوجية مستحدثة. فليس لدينا عدد كاف من الإعلاميين العلميين ممن لديهم المهارات والقدرات والأدوات التي تمكنهم من إعداد التقارير العلمية المميزة وفهم الأنشطة والمجالات العلمية للمراكز البحثية والهيئات العلمية، والاقتراب عن ثقة لمحاورة العلماء والباحثين في هذه المؤسسات وفي المؤتمرات العلمية التي قد تمر دون أن يعلم الجمهور عنها وعن العلماء الحاضرين فيها سوى أخبار سريعة تتناقلها جميع الصحف. وقد يمكن التغلب على ذلك من خلال إعداد دورات تدريبية لتنمية وتطوير باستمرار مهارات الإعلاميين العلميين، يشارك فيها كوادر صحفية علمية وعلماء متخصصون، وبخاصة قبل انعقاد المؤتمرات والأحداث العلمية الدولية المهمة، مع تزويدهم بالكتب العلمية الأساسية والمواقع العلمية على شبكة الإنترنت الضرورية للعمل في الصحافة والإعلام العلمي، وكذلك ضرورة تأسيس أقسام علمية بالصحف لها رؤية وبرامج واضحة، تضم صحفيين لديهم المؤهلات والمهارات وفنيات الكتابة الضرورية لمعالجة القضايا والشؤون العلمية، على أن يساهم في تطويرها وإنجاحها علماء متخصصون ممن لديهم الحس الصحفي والإعلامي. يمكن للإعلام العلمي أن يضع نفسه في موقع متقدم من الإعلام المتخصص كما هو الحال في الصحافة الرياضية أو الثقافية أو الأدبية أو الفنية، ويمكن زيادة مقروئيته، وذلك عندما يخرج من نطاقه الضيق المتمثل في التوعية والتثقيف العلمي من خلال الترجمة فقط، ليشمل أيضاً التحليل الجاد والدقيق لقضايا الوطن المهمة التي لها صلة بالعلم والتكنولوجيا، وكذلك متابعة شاملة للأحداث والتطورات والقضايا والمؤتمرات العلمية، والمحاورة المتعمقة للعلماء والباحثين في المؤسسات العلمية والمؤتمرات الدولية، بأمانة ودقة ومهارة بالغة، ولن يتم هذا إلا من خلال كتاب وإعلاميين متخصصين ومتابعين جيدين مهتمين بأحداث وتطورات العلم والتكنولوجيا. لا بد أولا أن يصبح العلم ثقافة في مجتمعاتنا العربية، وذلك من خلال إعلام علمي تنموي متميز يؤدي الى التواصل المستمر بين الحركة العلمية وعامة الجمهور، من خلال تقديم الموضوعات والأخبار والتقارير العلمية بأسلوب ناقد واستقصائي، يساعد على فهم طبيعة العلم وأهميته، والحث على المشاركة الإيجابية في اتخاذ القرارات، خصوصا فيما يتعلق بالمشكلات والقضايا المجتمعية التي يلعب فيها العلم والتكنولوجيا الدور الأساسي. مع أهمية مواكبة الثورات والتطورات والقضايا العلمية والتكنولوجيا العالمية المتسارعة، الأمر الذي يسهم في النهاية في تغيير نظرة مجتمعاتنا العربية للعلم وتنشئة مواطن يمارس أسلوب التفكير العلمي في جميع مجالات حياته اليومية، وبالتالي إدراك أنّ العلوم والتكنولوجيا ليست ترفاً ورفاهية، بل هي الطريق نحو التميز في الحاضر والمستقبل. كما أن هناك ضرورة للتعاون بين العلماء والإعلاميين العلميين للتعرف عن قرب على كيفية معالجة المواضيع العلمية في وسائل الإعلام، وكيفية توصيلها بأسلوب سهل ومبسط وجذاب لعامة الجمهور. كما أن للجامعات العربية دوراً مهماً في إعداد من يقوم بمهمة التوعية العلمية، وذلك بتطوير المقررات الدراسية في الكليات العلمية والنظرية وبخاصة كليات الإعلام، لإعداد أقسام وتخصصات جديدة في الصحافة العلمية والإعلام العلمي. مع أهمية أن يواكب ذلك أيضاً الاهتمام بتأليف وترجمة الكتب العلمية وفق خطط واستراتيجيات فاعلة يسهم فيها العلماء وذوو الاختصاص، مع الاستفادة من رؤى الكتاب العلميين وعلمائنا العرب في الداخل والخارج في تحديد قائمة موضوعات ومجالات العلوم والتكنولوجيا المهمّة، وكذلك الاستفادة منهم في دعم وتشجيع قراءة الكتب العلمية والتَّعرف على إتجاهات وقضايا العلوم الحديثة، من خلال استضافتهم في ندوات ومحاضرات عامة لمناقشة هذه الكتب مع مؤلفيها ومترجميها، وذلك في دور ومكتبات النشر ووسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية، وخصوصا قنواتنا الفضائية المتزايدة. الإعلام العلمي العربي يحتاج إلى رؤى جديدة ترفع من نوعيته وتأثيره وتميزه، تتبناها ليس فقط المؤسسات الصحفية وإنما أيضاً أقسام الإعلام بالجامعات ومراكز البحوث والجمعيات العلمية والمراكز الإعلامية في المؤسسات والشركات البحثية، وكل من له صلة بالعلوم والبحث العلمي، وتركز هذه الرؤى ليس فقط على نشر التوعية العلمية والأحداث والأخبار العلمية، وإنما أيضاً متابعة ورصد وكشف الأحداث والسياسات والقضايا العلمية والتكنولوجية، ومحاورة العلماء والمسؤولين، بدقة وأمانة وموضوعية، وربطها بقضايا التنمية الوطنية، وذلك من خلال سياسة واضحة المعالم والأهداف، يساهم في تفعيلها وإنجاحها ليس فقط إعلاميون علميون، وإنما أيضاً علميون إعلاميون. ويبقى القول ان بقاءنا وتفوقنا في عالم الحاضر والمستقبل، لن يتم إلا بنشر العلم بين أبناء أمتنا، وأن يأخذ العلم مكانه اللائق بين كل ما نقرؤه ونسمعه ونشاهده، وأن يتدرب الأفراد على الاهتمام بالعلم وقضاياه، وهذا لن يتأتى الا بإعلام علمي جاد، وجهد خالص بناء يدفع بالحركة العلمية للأمام، حتى يصبح العلم مكوناً أساسياً من مكونات ثقافة مجتمعاتنا العربية. ميدل إيست