قررت روسيا التمهيد بالعمل، وبقانون إجباري، ببرامج المعلوميات الروسية الصنع، وبدء التخلي عن البرامج الغربية، خاصة الأمريكية مثل ويندوز وأندرويد، علاوة على شبكة إنترنت وطنية غير مرتبطة بالعالمية في حالة الأزمات. ويعد هذا من المنعطفات الكبرى خلال القرن الواحد والعشرين. وهناك تساؤلات عن تأخر روسياوالصين في هذا المجال، لما له من ارتباط بسيادة الدول. ويعتمد الأمن القومي لبلد ما على عدد من العناصر المتنوعة، لكن أربعة منها تبقى رئيسية وهي، الأمن الغذائي، وضمان أمن الطاقة، ثم قوة الدفاع عن الوطن ويتجلى العنصر الرابع في وجود نخبة وطنية ذات ضمير حي تمنع الوطن من الانزلاق إلى التردي وتعمل على بقائه في الطليعة. ويتوفر عدد قليل من دول العالم على هذه الخصائص، التي هي من مميزات الدول الكبرى مثل، فرنسا وبريطانيا والصين وألمانيا، وتنفرد روسياوالولاياتالمتحدة بأمن قومي متكامل تقريبا، بسبب توفرهما على مصادر الطاقة الهائلة من غاز وبترول. وانضاف إلى هذه العناصر الأربعة عنصر جديد وهو، مدى توفر الدولة على برامج المعلوميات الخاصة بها، لتضمن الأمن السبيراني، لاسيما وأن حروب المستقبل تركز كثيرا على الحرب السبرانية، ذلك أن مختلف جوانب حياة البشرية مرتبطة مع مرور الوقت بشبكة الإنترنت، خاصة بعد تطبيق الجيل الخامس من الإنترنت، الذي تكتسب فيه الصين الريادة العالمية. في هذا الصدد، كان الغرب سباقا إلى اختراع المطبعة بمفهومها الحالي، وهو ما منحه تحقيق قفزة نوعية في التقدم على جميع المستويات، ومكّنه أساسا من السيطرة على العالم، لهذا تعد القرون الخمسة الأخيرة هي قرون سيطرة الغرب بامتياز، ويكفي استحضار الاستعمار كوجه سلبي وبشع لهذا التقدم، أو استحضار التقدم العلمي في مجالات الفيزياء والطب والصناعة كمظهر إيجابي. وكان الغرب كذلك سباقا في مجال المعلوميات، من خلال برامج شركات ميكروسوفت مثل، ويندوز وبرامج شركة آبل وشركة غوغول، خاصة أندرويد علاوة على شركات التواصل الاجتماعي مثل، تويتر وفيسبوك ويوتيوب، التي تهيكل جزءا مهما من حياة البشرية في الوقت الراهن، ولا يمكن تصور العالم حاليا بدون هذه البرامج. واستشعرت الدول الكبرى غير الغربية مثل الصينوروسيا خطر الاعتماد على برامج أمريكية، بل حاولت دول غربية مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا التخلص من السيطرة الأمريكية في هذا المجال، وعملت جاهدة على التوصل الى برامج بديلة عن ويندوز، وباءت جميع المحاولات بالفشل، ولم تنجح سوى في إنشاء برامج الكتابة بديلة ل»وورد». ولا يسيطر القلق الكبير على هذه الدول لأنها جزء من الغرب، لكن القلق الكبير هو الذي يخالج الصينوروسيا، إذ كان جيشهما حتى الأمس القريب يعتمد على نسخ من ويندوز خاصة، لكن هناك دائما خطر التجسس الأمريكي بحكم أن الأمر يتعلق ببرامج أمريكية. وبدأت روسيا في قطع خطوات بارزة في هذا المجال، اعتبارا من أن حروب المستقبل ستشمل بشكل كبير الحرب السبرانية، أي ضرب الإنترنت أو السيطرة على شبكات الآخر. ولعل أكبر تخوف في الغرب في الوقت الراهن هو ضرب الغواصات الروسية خطوط الربط الإنترنت بين الولاياتالمتحدة وأوروبا، كما أفادت مؤخرا الصحافة الألمانية، وبدأت روسيا الاعتماد على نسخة معدلة من «لينوكس» تسمى «لينكوس أسترا» متقدمة للغاية وتتحكم في مفاتيحها، ويفترض أن الولاياتالمتحدة لا يمكن اختراقها نهائيا. ودشن الجيش الروسي العمل بهذا البرنامج حماية لأمنه القومي، ثم بدأت تستعمله الإدارات الكبرى الرسمية، والآن يفرض على باقي الإدارات والشركات في أفق تعميمه على المواطنين الروس.. وتمتد هذه الاستراتيجية الى الهواتف النقالة، ابتداء من يونيو/حزيران المقبل، حيث ستكون الشركات التي تبيع الهواتف الذكية مطالبة ببيع هواتفها رفقة برامج روسية الصنع، لكن المنعطف الكبير هو الذي حدث ابتداء من بداية نوفمبر الماضي، فقد قامت روسيا بتجريب ما يسمى «الإنترنت الداخلية»، أو تطبيق «القانون السيادي لإنترنت»، وهي قطع الإنترنت الوطنية عن العالمية في حالة أزمة من الأزمات، أو محاولة الغرب قطع الإنترنت عنها نهائيا، علاوة على الحد من اطلاع الغرب على معطيات المواطنين الروس عبر الإنترنت. وخطت روسيا هذه الخطوة بعدما فشل وتأخر مشروع إنترنت بديلة تبنته دول البريكس، الصينوروسيا والبرازيل والهند وجنوب افريقيا، حيث جرى تخصيص عشرة مليارات من الدولارات منذ خمس سنوات من دون تقدم. وهناك انتقادات للمشروع من طرف أنصار الديمقراطية في روسيا، إلا أن الخبراء يعتبرون هذا القرار استراتيجيا يهم روسيا خلال العقود المقبلة، ولا يقتصر فقط على حقبة الرئيس فلاديمير بوتين. كل الدول تطمح الى الاعتماد على برامج معلوميات رقمية خاصة بها، لكن معظم الدول لا تتوفر على المستوى التكنولوجي الكافي لاختراع هذه البرامج، كما أن الولاياتالمتحدة تعمل جاهدة على ربط العالم ببرامجها، ويكفي رؤية كيف تراجع البيت الأبيض عن قراره حرمان شركة هواوي من أندرويد لأنه كان يعني تشجيع الصين على الاستقلال عن البرامج الأمريكية. ويعتقد الخبراء أنه في ظرف عقد من الزمن، سيكون عالم الرقميات والمعلوميات مغاير بفضل توفر برامج بديلة للأمريكية، وهو ما سيساعد على الاستقلال الرقمي للكثير من الدول. القدس العربي