لتاريخ البشرية المعاصر قراءتان أساسيتان. الأولى ترى في الدولة الوطنية ومؤسساتها وأجهزتها آلة العدل والمساواة والعقلانية والسلم الأهلي والتقدم التي ابتكرتها مجتمعاتنا للتخلص من التخلف والظلم والتمييز وحروب الكل ضد الكل. هذه القراءة الأولى ترى بالدولة أيضا السبيل الوحيد لتجاوز هويات الناس الدينية والمذهبية والعرقية والقبلية وانتماءاتهم المتضاربة وتكالبهم على المصالح الخاصة ومخاطبتهم كمواطنات ومواطنين متساوين، ولإنفاذ القانون وتفعيل سيادته الضامنة للحقوق وللحريات. هنا تمكن الدولة الوطنية من خلال احتكار الاستخدام المشروع لأدوات القوة الجبرية من مساءلة ومحاسبة ومعاقبة الخارجين على القانون ومن ثم حماية السلم الأهلي ومن إدارة موارد وثروات المجتمعات الطبيعية والبشرية لتحقيق التقدم وتحسين الأحوال المعيشية وصون الكرامة الإنسانية. أما القراءة الثانية فجوهرها أولوية المجتمع بتنظيماته الوسيطة وبمبادرات الأفراد الذاتية لإنجاز العدل والسلم والتقدم وتحقيق السعادة التي لا سبيل لها دون ممارستنا للعقلانية (ومصادرها الوحيدة هي رغبة الإنسان في المعرفة وضميره وقدرته الفردية على الإفادة من أخطائه) وتمتعنا بالحقوق والحريات التي نأتي للحياة بها (إن وفقا للمعتقدات الدينية أو لأفكار فلسفية كفكرتي حالة الفطرة والقانون الطبيعي) دون انتقاص. في هذا السياق، توظف الدولة الوطنية ومؤسساتها وأجهزتها للاضطلاع بمهام إنفاذ القانون وحفظ الأمن وإدارة الموارد والثروات تحت رقابة المواطنين المباشرة والدائمة بآليات المشاركة الشعبية وتداول السلطة. في هذا السياق أيضا، تتبلور السلطات العامة الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية وتطبق مبادئ التوازن بينها للحيلولة دون احتكار الحكم من قبل فرد أو مجموعة أو نخبة أو مؤسسة ولكي توفر الحماية للتنظيمات الوسيطة من جمعيات وهيئات أهلية ونقابات وأحزاب وتمكن من التعبير عن مصالح المواطنين والقواسم المشتركة بينهم المتمثلة في الصالح العام والالتزام الجماعي بالعقلانية واحترام قيم العدل والمساواة. وعلى الرغم من أن التاريخ المعاصر للبشرية يحفل من جهة بخبرات ناجحة تشير إلى رجحان القراءة الثانية وأولوية أدوار المواطن والمجتمع لصناعة التقدم والحيلولة دون تواصل التخلف والظلم وتندر به من جهة أخرى الدلائل على دور إيجابي للدول الوطنية حين تغيب مشاركة المواطن ورقابة المجتمع على مؤسساتها وأجهزتها وحين تتغول منظومات الحكم بها وتعتنق الاستبداد دينا ومذهبا، إلا أن الولع بالدولة ورؤيتها كآلة العدل والتقدم أبدا لم يتراجعا. ومازال الولع بالدولة يلهم الكثير من النخب الفكرية والثقافية والسياسية وجماعات المصالح الاقتصادية والمالية لتقديم الدولة على المجتمع، وقبول اختزال أدوار مؤسساتها وأجهزتها في السيطرة على المواطنين وحكم المجتمعات، وتبرير احتكار إدارة الشأن العام وصناعة القرار العام دون آليات مشاركة ورقابة فعالة، وتمرير إهمال أولوية صون حقوق وحريات المواطن ومبادرات الناس الفردية وتنظيماتهم الوسيطة. وعادة ما يدافع عن الولع بالدولة الوطنية بمقولات قلبها إما إخافة الناس من الفوضى وعدم الاستقرار وخطر الانزلاق إلى حروب الكل ضد الكل إذا لم يسلم المواطنون أمورهم للدولة وللحكم أو الترويج لنظرة دونية للمواطن كفاعل غير رشيد لا يدرك مصالحه الحقيقية وللمجتمع كخليط من المصالح الخاصة المتناقضة والمتضاربة التي يستحيل التوفيق بينها من غير القبضة الحديدية للدولة ومن غير إعطاء منظومات الحكم سلطة الفعل والقرار دون رقابة أو مراجعة أو محاسبة. وعادة أيضا ما يتهم ظلما أنصار قراءة المجتمع أولا بعدائهم للدولة الوطنية ورغبتهم في خلق حالة من الفوضى المستمرة إما لدوافع مثالية أو لنزوع شرير يرتبط برغبة الأقوياء في السيطرة على المجتمع وتهميش مؤسسات وأجهزة الدولة التي دوما ما تدعي القدرة على حماية حقوق وحريات الضعفاء. أسجل أن أنصار المجتمع أولا يتهمون بذلك ظلما، لأن الحقيقة هي أنهم يبحثون عن دولة وطنية قوية ذات وظائف محددة لا تتورط في الاستعلاء على المواطنين والمجتمعات. يتهمون بمعاداة الدولة الوطنية ظلما، لأن أفكارهم بشأن المشاركة والرقابة الشعبية على المؤسسات والأجهزة وكذلك السلطات العامة ترجمت وتترجم في الواقع المعاش إلى نماذج ناجحة لمواطن ومجتمع ودولة يجمعهم العدل والعقلانية والتقدم وبهم معا يحمي المواطن ويحمي المجتمع الدولة الوطنية حين تعصف بها الأزمات. في بلاد العرب اليوم هيمنة على المجال العام ونقاشاته من قبل المروجين للولع المغلوط بالدولة الوطنية وتجاهل للشروط الموضوعية لصناعة التقدم ولتحقيق منعة الدولة، تلك الشروط التي ترتبط بالمشاركة والرقابة الشعبية والآليات الديمقراطية الأخرى. ولا بديل أمامنا، نحن أنصار قراءة المجتمع أولا سوى مواصلة توعية الناس لتبيان حقيقة أن المواطن الحر بمبادراته الفردية والمجتمع الحر بتنظيماته الوسيطة المستقلة هما أصحاب القدرة الحقيقية على حماية الدولة الوطنية وعلى صناعة العدل والعقلانية والتقدم وإخراج بلادنا من أزماتها المتراكمة والانفتاح على مسارات فعلية للتحول الديمقراطي والتنمية المستدامة. القدس العربي