العدوان على غزة: نفاد 59 بالمائة من الأدوية الأساسية و37 بالمائة من المهام الطبية    أكثر من 70 دولة تدعم "مشروع الجزائر" حول الألغام    الجزائر/فرنسا: "إعادة بناء شراكة متكافئة"    رئيس البنك الاسلامي للتنمية: الجزائر من كبار الداعمين للبنك و سنساهم في دعم تنميتها الاقتصادية    الجيش..عيون ساهرة على صون السيادة الوطنية    لا سبيل لتصفية الاستعمار بالصحراء الغربية إلا المفاوضات    تبادل الآراء مع كافة أطياف المجتمع المدني    الخط الجوي الجزائر العاصمة-أبوجا سيعطي دفعا جديدا للعلاقات الاقتصادية والانسانية بين البلدين    رفح.. المدينة التي محاها الاحتلال من الخارطة    المغاربة ينتفضون ضد التطبيع ويندّدون بمحرقة غزة    أيام سيرتا للفيلم القصير بقسنطينة: تنظيم الطبعة الأولى من 12 إلى 15 أبريل    معتقلو "أكديم ايزيك" يناشدون الالتفاف حول الحملة الوطنية والدولية من أجل إطلاق سراح جميع الأسرى الصحراويين    المستفيدون من منحة أو معاش التقاعد المولودين في شهر أبريل مدعوون إلى تجديد وثائقهم الثبوتية    سعداوي يستقبل رؤساء وممثلي النقابات    ورقلة : ضرورة تعزيز التواصل بين المرصد وفعاليات المجتمع المدني لترقية العمل المشترك    رحلات بحرية إضافية نحو مرسيليا    استئناف رحلات قطار الجزائر- تونس    445 مشاركا في التصفيات الوطنية    المغرب : احتجاجات عارمة في الرباط رفضا للتطبيع ومطالب بقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني    الشبيبة تقفز إلى الوصافة    تراجع كميات الخبز المرميّ بعلي منجلي    وزيرة التضامن تستقبل رئيس الجمعية المهنية للبنوك والمؤسسات المالية    صالون جازاغرو يفتتح غداً بالعاصمة    اتهلاو في الجزائر    اليوم العربي للمخطوط: وزير الثقافة والفنون يثمن سير عملية ترميم ورقمنة المخطوطات في الجزائر    الجزائر ومنظمة الصحة تتفقان    هذه أهم أسباب الطلاق في الجزائر    هكذا يكون الرجوع إلى النظام الغذائي العاديّ    ميلة.. إطلاق أشغال إعادة الاعتبار لملعب شلغوم العبد قريبا    بن يحيى: قادرون على قلب الموازين وسنقاتل أمام أورلاندو    عرض أوروبي مغرٍ لقندوسي وسيراميكا متردد    47 مؤسسة تربوية و51 مطعما تسلَّم قريبا    متحف خاص يؤرخ للفن والتراث بتندوف    نجم بن عكنون يقترب من الصعود و"الصفراء" في الصدارة    الطبعة الأولى من 12 إلى 15 أفريل    الجزائر تقدّم 11 ملفا حول التراث المادي لليونسكو    جيدو : الجزائري خالد ونوف يستهدف منصبا في المكتب التنفيذي للاتحاد العربي    من 17 إلى 20 أفريل الجاري.. تيبازة تحتضن المهرجان الدولي للتراث الشعبي    ارتفاع قيمته السوقية إلى حدود 32 مليون يورو..عمورة يهدد رقم رياض محرز التاريخي بصفقة غامضة    محرز ضد عوار.. ماذا حدث بينهما في ديربي جدة؟    بللو يشدد على ضرورة الجودة العالمية والالتزام بالآجال ويؤكد: فيلم عن الأمير عبد القادر يجب أن يجسد تطلعات الشعب الجزائري    الترجمة بالذكاء الاصطناعي… موت الرقيب وازدهار اللغات المقموعة    بأرقام مذهلة.. هشام بوداوي ينافس نجوم فرنسا    حوادث المرور : مصرع 3 أشخاص وإصابة 246 آخرين خلال ال24 ساعة الأخيرة    زعلاني: فرنسا ملزمة بتنفيذ قرار مجلس حقوق الإنسان حول الألغام التي زرعتها في الجزائر    القضية الفلسطينية "ليست قضية حركة أو حزب أو بلد فقط, بل هي قضية أمة"    112 شهيداً منذ ساعات الفجر    مستغانم: التحضير لموسم الاصطياف على قدم وساق    بحثنا سبل تنفيذ القرارات الخاصة بتطوير المنظومات الصحية    يعزّي في وفاة قائد القطاع العسكري لولاية تيميمون    تعاون متزايد بين الجزائر ومنظمة الصحة العالمية لتعزيز القطاع الصحي    وزارة الصناعة الصيدلانية تقرّ اجراءات تفادياً لأي تذبذب أو انقطاع دوائي    برمجة فتح الرحلات عبر "بوابة الحج" و تطبيق "ركب الحجيج"    فتاوى : الجمع بين نية القضاء وصيام ست من شوال    اللهم نسألك الثبات بعد رمضان    لقد كان وما زال لكل زمان عادُها..    أعيادنا بين العادة والعبادة    عيد الفطر: ليلة ترقب هلال شهر شوال غدا السبت (وزارة)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر: سبتمبر من كل عام... قراءة في مشاهد السخط والتظاهر
نشر في الحياة العربية يوم 26 - 09 - 2020

شهدت مصر في الفترة الممتدة من العاشر إلى الثاني والعشرين من سبتمبر/أيلول مظاهراتٍ متفرقة في محافظاتٍ عدة، وإذ صارت تُعرف بأحداث 20 سبتمبر، في استحضارٍ وإعادةٍ لا يمكن إنكارهما لأحداثٍ مشابهة وقعت في اليوم نفسه من العام الماضي، استجابةً لدعوة المقاول المغترب محمد علي، فقد رصدت المفوضية المصرية للحقوق والحريات 147 حالة اعتقال، والمدهش والأكثر إيلاماً أن بينها 28 طفلا، أجل أطفال دون الثامنة عشر، يعتقلهم النظام في قضايا أمن دولة، فقد أُدرجوا جميعاً على ذمة قضية 880 لسنة 2020 حصر أمن دولة.
كما في كل الأحداث السابقة، جاء رد فعل الدولة قلقاً وخائفاً في البداية من أن تخطئ حساباتهم هذه المرة (إذ ربما يكون الدرس الوحيد الذي تعملوه في عقد الثورة المحبطة، أن خطأً أو سوء تقديرٍ يتيم ناتجٍ عن الاستخاف أو الاستهتار، كفيلٌ بقلب الطاولة عليهم) ثم تعاملاً أمنياً فظاً عنيفاً لاستئصال بذرة التمرد من ناحية، وتثبيتاً لذواتهم المرتعدة من ناحيةٍ أخرى، حتى إذا مرّت العاصفة أو الريح التي ربما تكون لم تقلب أكثر من قدر أو اثنين زُج بالضحاياً، أعداداً وأرقاماً، لا تعني للنظام شيئاً، ولا يهتز لثقل ضخامتها، زجوا في السجون ليتكدسوا فوق سابقيهم.
ثم تأتي قضية أمن الدولة برقمها لتضع اللمسة الأخيرة على هذا المشهد المؤلم البائس، المضمخ بالدم والبارود والهراوات والهتاف والأنين؛ تأتي رقماً آخر، يبدو باهتاً ومحايداً تماماً، ولا يعني شيئاً سوى للمعنيين وذويهم وطاقم دفاعهم (ما توفر) وللمتابعين عن كثب. رقمٌ آخر. القضية 880 لسنة 2020، 930 لسنة 2019 ( قضية تنظيم الأمل) في ظاهرها مجرد أرقامٍ ربما خطت بالرقعة أو بالديواني على ملفاتٍ تصطف على رفوفٍ متربةٍ في نظامٍ متربٍ مترهلٍ بليد، ولعل تلك القضايا عدا الانتقام واستيفاء الشكل القانوني في بعض الأحيان، ذراً للرماد في العيون، لا تخدم شيئاً إلا ترسيخ معاني البلادة واللامعنى، ومن ثم اللاجدوى لدى الناس، بأن صراعاتهم ومصائرهم لن تعدو القتل أو السجن، وبضعة أرقامٍ لا تعني شيئاً على ملفاتٍ تقرضها الفئران في أرشيف المحاكم، و»تبقى الأمور على ما ترى» والنظام على حاله.
بيد أن ذلك الشعور خادعٌ، بل هو فخ. مفهومٌ تماماً الشعور بالإحباط والجزع والألم، لما يلحق بالناس من قتلٍ وعسفٍ وسجن، لكن الاستسلام للبلادة هو الوقوع في الفخ.
بعيداً عن التنظير، فقد كنت متخوفاً، بل ورافضاً للاستجابة لدعوات النزول في العشرين من سبتمبر لعدة أسباب، ليس منها أنني بت أرى أي إيجابياتٍ للسيسي، أو أخشى على مصر من أي شيء، لكنني كنت أرى دفع الناس (أو قطاعاتٍ منهم) للتمرد وهم من ناحيةٍ على ذلك القدر من الإعياء، في ظل شواهد توحي بفشل الدعوة، وقلة الأعداد التي ستستجيب على أحسن افتراضٍ، ومن ناحيةٍ أخرى في غياب تنظيمٍ ثوري حقيقي قادر على التلاحم واستثمار الحدث والقيادة، كنت أرى ذلك تهوراً لن يخدم إلا النظام، وسيعمق الشعور بالإحباط لدى الناس.
لكن أحداث 20 سبتمبر، أي الواقع ذا الأولية، دفعني لإعادة حساباتي وقراءة المشهد بصورةٍ مختلفة، وإن بقيت لديّ قناعةٌ لم تتغير.
أولاً، هناك الملاحظة المتكررة التي يرفدها ويعضدها تعاقب الشواهد بأن «حيل السيسي» الكلامية فقدت سحرها، في لحظةٍ ما، تحت تأثير غياب الأمن النسبي عن الشوارع، وأزمات الوقود والكهرباء، تحت تأثير الخوف من الحاضر والآتي، انطلت على قطاعاتٍ عديدة «هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه» ولعلهم صدقوا أنه حانٍ وأنهم بالفعل «نور عينينا» خاصةً في ظل غيابٍ واسعٍ لوعيٍ طبقي يحمي ويقي من عدوى الوطنية تلك، بيد أن الوقت لم يطل، حتى أسفر النظام والسيسي عن وجههما الحقيقي بانحيازاتهما الاجتماعية المتضادة والمعادية بصورةٍ حادة لا هوادة فيها، للمهمشين والطبقات الدنيا، التي زادت بفعل إجراءاته الاقتصادية التقشفية. صار اللعب على المكشوف، ويتزايد يوماً بعد يوم، وفهم الناس جيداً إلى مَن ينحاز السيسي.
ولأن «عطية» لم ولن تفهم في ما يبدو (راجع مقالي السابق) فلم يصل إلى السيسي أو النظام أن الشحن الوطني وزرع رهاب المؤامرات الكونية الصهيو- أمريكو- ماسونية إلخ، لا بد أن تواكبه مكاسب مادية ملموسة ترفع مستوى معيشة الناس، خاصةً الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى ذات الدخل المحدود المسكونة بالخوف من الانزلاق، ومن الفقر والتطلعات إلى أعلى عليين (البورجوازية الصغيرة) التي يساوي سخطها خسارة ملايين من البشر، كما لم يلتفتوا إلى أن التضييق على محاولات الناس، خاصةً ما دون تلك البورجوازية الصغيرة والمهمشين في التحايل على الواقع يضعهم وظهورهم إلى الحائط على طريق التمرد والسخط، ومن الواضح لي أنهم لا يصدرون في ذلك عن جهلٍ فحسب، ولكن عن تصورٍ راسخٍ بقدر ما هو شائع بأن مصر (والمصريين) لا تثور، وأن الضرب بالسياط هو الأسلوب الأنجع والوحيد للتعامل مع هذا الشعب (تقال هكذا دائماً بتعالٍ واحتقار، وأحياناً تُستبدل السياط بالأحذية، على حسب الرواية والراوي) ويضاف إليه تصورٌ آخر بأنهم، أي المصريين «يعرفون كيف يتصرفون» إذ ثمة قناعةٌ بأن الناس دائماً تخبئ المال، ويفوت بذلك درس يناير/كانون الثاني الأهم من أن المصريين على صبرهم يثورون كغيرهم من البشر، وأن سر تحملهم لمبارك كان بطء تحركاته، ما سمح لهم بالتكيف والتحايل، بينما تتسم تحركات السيسي بسرعة وحدة تغييراته الهيكلية للاقتصاد، وقطعه الطريق على حيلهم، ناهيك من عنفه الغشوم ودمويته المفرطة.
ثاني الدروس كان مراجعةً في حقيقة الأمر لدرسٍ تاريخيٍ قديمٍ، ينبغي أن يعرفه كل قارئٍ للتاريخ، ومهتمٍ أو مشتغلٍ بالثورة: أنك لا تعرف متى وكيف بالتحديد تنفجر الثورات، نحن نعلم أن ظرفاً موضوعياً يتطلب ثورةً، أو نضجاً لها، كقشٍ غارق في مادةٍ مشتعلة، إلا أننا لا نعرف من أين تأتي الشرارة، وقد تأتي من حدثٍ تافهٍ، أو شخصٍ لا يعجبنا بالضرورة، وما قد يبدو عارضاً إلا أنه يضرم النار. نفوسنا المحبطة وعقولنا التي تجتر نماذج الفشل والهزيمة في قلب الواقع البليد، هي التي تنسينا هذا الدرس، ولعل ذلك أروع ما في الحياة، أنها تتدفق، حبلى بالاحتمالات. ولا يعني ذلك البتة أنه يُفترض أن ننتظر تلك الشرارة، ولكن على الأقل ألا نصادر المستقبل.
أما ثالث الدروس، قناعتي التي لم تتغير إلا بالزيادة، فللأسف قديمٌ أيضاً: أننا نفتقد تنظيماً (أو تنظيمات) قادراً على استثمار الظرف الثوري الموضوعي وتنشئة الكوادر وبث المفاهيم، ومن ثم التصدي للحدث الثوري (حتى لو لم يكن شرارته ومحفزه) وقيادة الجماهير. ما لدينا من أحزابٍ تسمى يسارية، على سبيل المثال، رأت تناقضها الرئيسي مع الإخوان المسلمين، وليس مع النظام الأكثر تطوراً الذي يتحالف مع السلفيين، والمزحة أن هذه ليست بمزحة.
سبتمبر هذا العام يحيي الأمل في التغيير، ويؤكد أننا لم نر آخر ما في مصر من الثورة والتمرد، فتحت الرماد لم تزل نارٌ وإن خبت، كما يؤذن باتخاذ الصراع بعداً طبقياً جلياً حتى لو لم يعِ من قاموا به ذلك بعد، لكن الأكيد أن هذا الوعي مقبل.
القدس العربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.