شهدت مصر في الفترة الممتدة من العاشر إلى الثاني والعشرين من سبتمبر/أيلول مظاهراتٍ متفرقة في محافظاتٍ عدة، وإذ صارت تُعرف بأحداث 20 سبتمبر، في استحضارٍ وإعادةٍ لا يمكن إنكارهما لأحداثٍ مشابهة وقعت في اليوم نفسه من العام الماضي، استجابةً لدعوة المقاول المغترب محمد علي، فقد رصدت المفوضية المصرية للحقوق والحريات 147 حالة اعتقال، والمدهش والأكثر إيلاماً أن بينها 28 طفلا، أجل أطفال دون الثامنة عشر، يعتقلهم النظام في قضايا أمن دولة، فقد أُدرجوا جميعاً على ذمة قضية 880 لسنة 2020 حصر أمن دولة. كما في كل الأحداث السابقة، جاء رد فعل الدولة قلقاً وخائفاً في البداية من أن تخطئ حساباتهم هذه المرة (إذ ربما يكون الدرس الوحيد الذي تعملوه في عقد الثورة المحبطة، أن خطأً أو سوء تقديرٍ يتيم ناتجٍ عن الاستخاف أو الاستهتار، كفيلٌ بقلب الطاولة عليهم) ثم تعاملاً أمنياً فظاً عنيفاً لاستئصال بذرة التمرد من ناحية، وتثبيتاً لذواتهم المرتعدة من ناحيةٍ أخرى، حتى إذا مرّت العاصفة أو الريح التي ربما تكون لم تقلب أكثر من قدر أو اثنين زُج بالضحاياً، أعداداً وأرقاماً، لا تعني للنظام شيئاً، ولا يهتز لثقل ضخامتها، زجوا في السجون ليتكدسوا فوق سابقيهم. ثم تأتي قضية أمن الدولة برقمها لتضع اللمسة الأخيرة على هذا المشهد المؤلم البائس، المضمخ بالدم والبارود والهراوات والهتاف والأنين؛ تأتي رقماً آخر، يبدو باهتاً ومحايداً تماماً، ولا يعني شيئاً سوى للمعنيين وذويهم وطاقم دفاعهم (ما توفر) وللمتابعين عن كثب. رقمٌ آخر. القضية 880 لسنة 2020، 930 لسنة 2019 ( قضية تنظيم الأمل) في ظاهرها مجرد أرقامٍ ربما خطت بالرقعة أو بالديواني على ملفاتٍ تصطف على رفوفٍ متربةٍ في نظامٍ متربٍ مترهلٍ بليد، ولعل تلك القضايا عدا الانتقام واستيفاء الشكل القانوني في بعض الأحيان، ذراً للرماد في العيون، لا تخدم شيئاً إلا ترسيخ معاني البلادة واللامعنى، ومن ثم اللاجدوى لدى الناس، بأن صراعاتهم ومصائرهم لن تعدو القتل أو السجن، وبضعة أرقامٍ لا تعني شيئاً على ملفاتٍ تقرضها الفئران في أرشيف المحاكم، و»تبقى الأمور على ما ترى» والنظام على حاله. بيد أن ذلك الشعور خادعٌ، بل هو فخ. مفهومٌ تماماً الشعور بالإحباط والجزع والألم، لما يلحق بالناس من قتلٍ وعسفٍ وسجن، لكن الاستسلام للبلادة هو الوقوع في الفخ. بعيداً عن التنظير، فقد كنت متخوفاً، بل ورافضاً للاستجابة لدعوات النزول في العشرين من سبتمبر لعدة أسباب، ليس منها أنني بت أرى أي إيجابياتٍ للسيسي، أو أخشى على مصر من أي شيء، لكنني كنت أرى دفع الناس (أو قطاعاتٍ منهم) للتمرد وهم من ناحيةٍ على ذلك القدر من الإعياء، في ظل شواهد توحي بفشل الدعوة، وقلة الأعداد التي ستستجيب على أحسن افتراضٍ، ومن ناحيةٍ أخرى في غياب تنظيمٍ ثوري حقيقي قادر على التلاحم واستثمار الحدث والقيادة، كنت أرى ذلك تهوراً لن يخدم إلا النظام، وسيعمق الشعور بالإحباط لدى الناس. لكن أحداث 20 سبتمبر، أي الواقع ذا الأولية، دفعني لإعادة حساباتي وقراءة المشهد بصورةٍ مختلفة، وإن بقيت لديّ قناعةٌ لم تتغير. أولاً، هناك الملاحظة المتكررة التي يرفدها ويعضدها تعاقب الشواهد بأن «حيل السيسي» الكلامية فقدت سحرها، في لحظةٍ ما، تحت تأثير غياب الأمن النسبي عن الشوارع، وأزمات الوقود والكهرباء، تحت تأثير الخوف من الحاضر والآتي، انطلت على قطاعاتٍ عديدة «هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه» ولعلهم صدقوا أنه حانٍ وأنهم بالفعل «نور عينينا» خاصةً في ظل غيابٍ واسعٍ لوعيٍ طبقي يحمي ويقي من عدوى الوطنية تلك، بيد أن الوقت لم يطل، حتى أسفر النظام والسيسي عن وجههما الحقيقي بانحيازاتهما الاجتماعية المتضادة والمعادية بصورةٍ حادة لا هوادة فيها، للمهمشين والطبقات الدنيا، التي زادت بفعل إجراءاته الاقتصادية التقشفية. صار اللعب على المكشوف، ويتزايد يوماً بعد يوم، وفهم الناس جيداً إلى مَن ينحاز السيسي. ولأن «عطية» لم ولن تفهم في ما يبدو (راجع مقالي السابق) فلم يصل إلى السيسي أو النظام أن الشحن الوطني وزرع رهاب المؤامرات الكونية الصهيو- أمريكو- ماسونية إلخ، لا بد أن تواكبه مكاسب مادية ملموسة ترفع مستوى معيشة الناس، خاصةً الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى ذات الدخل المحدود المسكونة بالخوف من الانزلاق، ومن الفقر والتطلعات إلى أعلى عليين (البورجوازية الصغيرة) التي يساوي سخطها خسارة ملايين من البشر، كما لم يلتفتوا إلى أن التضييق على محاولات الناس، خاصةً ما دون تلك البورجوازية الصغيرة والمهمشين في التحايل على الواقع يضعهم وظهورهم إلى الحائط على طريق التمرد والسخط، ومن الواضح لي أنهم لا يصدرون في ذلك عن جهلٍ فحسب، ولكن عن تصورٍ راسخٍ بقدر ما هو شائع بأن مصر (والمصريين) لا تثور، وأن الضرب بالسياط هو الأسلوب الأنجع والوحيد للتعامل مع هذا الشعب (تقال هكذا دائماً بتعالٍ واحتقار، وأحياناً تُستبدل السياط بالأحذية، على حسب الرواية والراوي) ويضاف إليه تصورٌ آخر بأنهم، أي المصريين «يعرفون كيف يتصرفون» إذ ثمة قناعةٌ بأن الناس دائماً تخبئ المال، ويفوت بذلك درس يناير/كانون الثاني الأهم من أن المصريين على صبرهم يثورون كغيرهم من البشر، وأن سر تحملهم لمبارك كان بطء تحركاته، ما سمح لهم بالتكيف والتحايل، بينما تتسم تحركات السيسي بسرعة وحدة تغييراته الهيكلية للاقتصاد، وقطعه الطريق على حيلهم، ناهيك من عنفه الغشوم ودمويته المفرطة. ثاني الدروس كان مراجعةً في حقيقة الأمر لدرسٍ تاريخيٍ قديمٍ، ينبغي أن يعرفه كل قارئٍ للتاريخ، ومهتمٍ أو مشتغلٍ بالثورة: أنك لا تعرف متى وكيف بالتحديد تنفجر الثورات، نحن نعلم أن ظرفاً موضوعياً يتطلب ثورةً، أو نضجاً لها، كقشٍ غارق في مادةٍ مشتعلة، إلا أننا لا نعرف من أين تأتي الشرارة، وقد تأتي من حدثٍ تافهٍ، أو شخصٍ لا يعجبنا بالضرورة، وما قد يبدو عارضاً إلا أنه يضرم النار. نفوسنا المحبطة وعقولنا التي تجتر نماذج الفشل والهزيمة في قلب الواقع البليد، هي التي تنسينا هذا الدرس، ولعل ذلك أروع ما في الحياة، أنها تتدفق، حبلى بالاحتمالات. ولا يعني ذلك البتة أنه يُفترض أن ننتظر تلك الشرارة، ولكن على الأقل ألا نصادر المستقبل. أما ثالث الدروس، قناعتي التي لم تتغير إلا بالزيادة، فللأسف قديمٌ أيضاً: أننا نفتقد تنظيماً (أو تنظيمات) قادراً على استثمار الظرف الثوري الموضوعي وتنشئة الكوادر وبث المفاهيم، ومن ثم التصدي للحدث الثوري (حتى لو لم يكن شرارته ومحفزه) وقيادة الجماهير. ما لدينا من أحزابٍ تسمى يسارية، على سبيل المثال، رأت تناقضها الرئيسي مع الإخوان المسلمين، وليس مع النظام الأكثر تطوراً الذي يتحالف مع السلفيين، والمزحة أن هذه ليست بمزحة. سبتمبر هذا العام يحيي الأمل في التغيير، ويؤكد أننا لم نر آخر ما في مصر من الثورة والتمرد، فتحت الرماد لم تزل نارٌ وإن خبت، كما يؤذن باتخاذ الصراع بعداً طبقياً جلياً حتى لو لم يعِ من قاموا به ذلك بعد، لكن الأكيد أن هذا الوعي مقبل. القدس العربي