لقد حققت الصين رقماً قياسياً على صعيد النمو والتفوق التقني والصناعي والعسكري، وحققت قفزتها الكبرى لتقف في مواجهة الدول العظمى وأصبحت منافساً قوياً لأميركا، ويتزامن هذا التفوق مع استثمارات عالية التقنية وصناعات عسكرية ضخمة، ثم بدأت معها الحروب التجارية والمواجهة الأميركية التي نددت بالخطر الذي أصابها وعدم قدرتها على حماية أمنها وتنافسيتها في سباقها العالمي مع الصين، وهذا ما يبعث على الخوف في الولاياتالمتحدة، فالصين تعمل على بلوغ أهدافها بدبلوماسية متوازية مع الجميع من دول شرق آسيا وغربها إلى أوروبا تغذيها الآلاف من وسائل الإعلام الصغيرة، فهي تستخدم علاقاتها بواسطة توازٍ لا يلتقي، فتارة تميل مع موسكو وتهدد بهذه العلاقة واشنطن، وتارة أخرى تهدد بعلاقتها مع واشنطن لكي تبقى مع موسكو، فكل شيء يشير إلى إمكانية تحقيق ما تريد، فهي تتميز عن أميركا بأكبر عدد سكاني تجاري وعسكري في العالم. كل مسائل السياسة تتمركز في ذلك العمق الذي يكون المنبع لكل الأحداث مع ضروب التاريخ العام للدولتين، غير أن التشويش من أي الدولتين على الأخرى تؤثر طرائقه المقدرة على الرأي العام، وهذا ما ينبغي ترتيله كما حدث سابقاً في أسلحة الدمار الشامل في العراق وتهيئة الرأي العام لحربها، فالتاريخ اليوم يعيد نفسه، وهذا ما كشفه تقرير جديد للولايات المتحدة بأنها معرضة لخطر قادم يهدد قدرتها على حماية أمنها وتنافسيتها في سباقها العالمي مع الصين، وذكر التقرير الصادر عن لجنة المخابرات بمجلس النواب الأميركي أنه «ما لم يتم إصلاح أجهزة المخابرات لمواجهة التهديد المعقد الذي تمثله الصين، فإن الولاياتالمتحدة معرضة لخطر عدم قدرتها على حماية صحة البلاد وأمنها وتنافسها مع بكين على المسرح العالمي». في خضم هذا التوتر قد تحيد الدولتان عن طريق الدبلوماسية، فأميركا ليست وحدها التي تجيد اللعب في الوقت المناسب من دون أن تفقد مكانتها وثقلها بكل أرصدتها الصناعية والتقنية، ولكنها بالمقابل بدأت في تحليل التهديدات غير العسكرية، مثل الصحة والاقتصاد وتغير المناخ، والتكنولوجيا الحديثة، ومحاربة تقنية الجيل الخامس بحجة التجسس، وتثبيت نفسها كسيد عالمي على الشبكة العنكبوتية في العقود المقبلة، وهذه هي الحال ذاتها في حظر تحميل ال«تيك توك» من الشركة الصينية، وللعالم في هذا الشأن معرفة ثرية لكي لا تفاجئه الحقيقة التي ترددها الصحف الأميركية باستهداف الصين في مقالاتها، وزادت من حدة التشهير، بعد أن ذكرت صحيفتان أميركيتان، «أن مكتب التحقيقات الفيدرالي وخبراء الأمن السيبراني في الولاياتالمتحدة يعتقدون أن المخترقين الصينيين قد قاموا بمحاولة سرقة أبحاث أميركية حول تطوير لقاح فيروس كورونا التاجي المستجد». وأبدى هنري كيسنجر «قلقه المتزايد من نشوب حرب باردة جديدة بين الصينوالولاياتالمتحدة»، وهو ما عزاه إلى التقدم التكنولوجي الذي غيَّر المشهد الجيوسياسي إلى حدٍ كبير، وأردف قائلاً إن أميركا بحاجة إلى «طريقة جديدة في التفكير تدرك أن العالم معقد للغاية، بحيث لا يمكن لدولة واحدة تحقيق مثل هذا التفوق الأحادي الجانب في كل من الاستراتيجية والاقتصاد». لذا، فإذا حذر كيسنجر شيطان السياسة أو ثعلب السياسة، كما يُسمى بأن بوادر حرب عالمية ثالثة على الأبواب، فالأمر غاية في الأهمية، وهو يشير إليه بوضوح بعدما كانت الأهداف مبهمة ولها تداعيات كبرى معقدة على صعيد السياسة، وأن أي منطقة تقع خارج نطاق سيطرة الولاياتالمتحدة يمكن أن تغدو فيروساً سوف ينقل العدوى إلى غيره من المناطق التي ستقتدي بالنهج ذاته، لكن قد تكون كل الاحتياطات غير كافية إن لم تؤخذ من الأول، فقد كان الهاجس الأول لأميركا وحلفائها منذ عام 1945 هو الخطر الروسي واليوم أصبح الخطر الصيني. فالزمن هو اللاعب الأهم، والصين تجيد السباق، وتمتلك القدرة لتجاوزه حتى يصعب اللحاق بها، فهي تدرك مدى قوة منافسها نظراً لكثير من الاستراتيجيات في المسرح السياسي الدولي، فالنسخة القديمة من كل الملفات تلاشى خطرها، وعوضاً عنها ظهرت تجليات أخرى فكانت الحصيلة الإجمالية للهجوم الضخم عليها لا تزال أصداؤه تتردد على أسماعنا بشكل مستمر، فإن الأمر ليس بتلك البساطة. إن التاريخ هو تاريخ العمل، والعامل والإنجازات التي حققها على أرض الواقع. فهل أصبحت العلاقات بين الولاياتالمتحدةوالصين أكثر توتراً والعالم ينساق إلى الموقف بصفتهم حلفاء؟ سواء بالرغبة أو الإكراه، فقد أضحى الحديث عن وضع الترسانات العسكرية للقوتين بشكل يومي ليصبح حديث الساعة والإعلام ووضع احتمالات اندلاع الحرب في المحيط الهادئ، ويشغل حيزاً كبيراً من وقت المراقبين العسكريين حول العالم. علماً بأن حجم الإنفاق لأميركا والصين مجتمعتين أكثر من 980 مليار دولار سنوياً، على جيشين تعداد قواتهما العاملة يتجاوز 3.5 مليون جندي، بينما يتجاوز تعداد سكان البلدين 1.8 مليار نسمة، ويمتلكان مساحات يتجاوز مجموعها 19 مليون كيلومتر مربع. فأين مستقبل البشرية وسياسة الممكن وسياسة الحوار، فكل شيء يسير نحو الحروب والعنف وصناعة الأسلحة المدمرة رغم تعاظم العلم والتقنية في القرن الواحد والعشرين. الشرق الأوسط