إذا ما قارنا خارطة البلدان البلقانية وكيف تبدّلت في كل جيل، منذ نهايات الحقبة العثمانية وإلى انهيار الوحدة اليوغوسلافية وما أعقب ذلك من حروب ومآس، وبين التبدلات التي طرأت على خارطة المشرق العربي في موازاة ذلك، فترة بفترة، منذ أفول الدولة العثمانية، لوجدنا خارطة المشرق أكثر ثباتاً بكثير، وتقريباً على حالها، منذ عشرينيات القرن الماضي الى اليوم. هذا على الرغم من أننا نقارن هنا بين كيانات منبثقة عن الامبراطورية العثمانية في الحالتين، وما يشترك به الفضاءان الجغرافيان – الثقافيان، البلقاني والمشرقي، من إشكالات متعلقة بصعوبة تدبّر حال التعددية الإثنية والدينية واللغوية فيهما، ناهيك عن التناقض الفعلي بين ميل الأفكار القومية إلى الغلواء والحماسة، وميل الدولة القومية إلى تثبيت المكان الذي «توجده» لنفسها على الخارطة. فهذه بلغاريا عام 1913. تبسط واجهة بحرية واسعة على بحر إيجه وتهضم مقدونية بعد الحرب البلقانية الأولى، وتقصي السلطنة العثمانية عن أدرنة وتراقيا، فلا يبقى لها في أوروبا سوى الأستانة نفسها، وتزيّن لنفسها أنّها أضحت بلغاريا الكبرى. حتى إذا اجتمعت كل البلدان المحيطة بها عليها في حرب البلقان الثانية عادت وخسرت كل ما توسعت اليه. فاستعاد العثمانيون تراقيا الشرقية حتى أدرنة، وهي لتركيا الى اليوم، وكادت رومانيا أن تحتل صوفيا نفسها في تلك الحرب. ثم عادت بلغاريا، وبنتيجة انخراطها في حلف المهزومين في الحرب العالمية الأولى، فخسرت ما بقي لها من واجهة على بحر ايجه، لتستعيدها مجدداً في الحرب العالمية الثانية ثم تخسرها، وتكتفي من يومها بواجهتها على البحر الأسود. وهذه اليونان. تمنّي النفس بأن هزيمة السلطنة سيجعلها تمتد على جانبي بحر ايجه، بل تغزو في العمق الأناضولي حتى تخوم أنقرة نفسها صيف 1921، قبل أن تردها المقاومة التركية على أعقابها، ويحلّ بيونانيي أزمير الخراب ويجري تبادل السكان، ولا يكاد النزاع الحدودي بين اليونان والبانيا في إقليم ابيروس يفتر حتى يلتهب من جديد، وتتقلص حدود اليونان أثناء الاحتلال الألماني لها في الأربعينيات حتى تعود فتكسب ما كان لإيطاليا من جزر جنوب بحر ايجه، قبالة سواحل تركيا، ما أغاظ الأخيرة، وساهم في نقل التوتر الى قبرص، ومن ثم الاجتياح التركي لشمال الجزيرة، لاعتراض مشروع دمجها بالكل اليوناني. وهذه يوغوسلافيا، فكرة مبنية على وحدة الشعوب السلافية البلقانية، تعامل معها الصرب مع الوقت على أنها تقويض للحلم الأوثق بصربيا الكبرى، فيما نفر منها الكروات لأنهم رأوا فيها صورة صربيا الكبرى لا غير، التي تلغي وجودهم القومي، فانفجرت الفكرة ابان الاحتلال الألماني، ثم عادت وانفجرت في التسعينيات، سلسلة حروب انتهت بالتدخل الأمريكي – الأطلسي لفصل كوسوفو عن صربيا، وانفضت كل الجمهوريات عن بعضها البعض. حتى الجبل الأسود الذي فك رباطه بصربيا. تبدو خارطة بلدان المشرق العربي وحدودها ثابتة منذ قرن فوق اللزوم، مقارنة بحركية خارطة بلدان البلقان وحدودها على امتداد الأعوام نفسها. كأننا لم نخرج من المختبر العثماني نفسه، مع أن المشترك العثماني أساسي سواء لفهم تطور أوضاع بلدان المشرق أو لفهم تطور أوضاع شعوب البلقان. وخارطة بلدان المشرق شبه ثابتة منذ مئة عام، على الرغم من الجريمة الكبرى المتمثلة بسلب الفلسطينيين أرضهم وتهجيرهم منها. إلا أن هذه الجريمة، وخصوصاً بعد تجذيرها عام 1967، مع استكمال إسرائيل احتلالها لكامل أراضي فلسطين الانتدابية، أعادت الاعتبار للحدود المرسومة على يد الفرنسيين والانكليز بين عامي 1916 و 1921. بعد مئة عام من انشاء الكيان الوطني العراقي عام 1921 القائم على دمج ثلاث ولايات عثمانية، الموصل وبغداد والبصرة، في مقابل عبث فرنسي بالتقسيمات العثمانية بالنسبة إلى ولايات حلب وسوريا وبيروت، وايثار إعادة التقسيم «من الصفر» لا يبدو أن خارطة المشرق تبدّلت بعد مئة عام، رغم تبدّل فحوى الكيانات نفسها أو تعاقب أنظمة الحكم المختلفة عليها. وأكثر: كلما ظهر أن الحدود على الخارطة تتبدّل، درنا دورة ثم عدنا الى محطة الانطلاق نفسها. طبعاً، عدلت فرنسا عام 1925 عن الدويلات الإدارية العسكرية المؤقتة التي انشأتها بعيد احتلالها لسوريا (دول دمشق، حلب، الدروز، العلويين) لصالح فكرة «المتحد السوري» قبل أن يتحول هذا الماضي الفدرالي لسوريا الحديثة الى محظور محتبس يُسكِن الفكرة الوطنية السورية نفسها في التوتر المستدام، لكن المتغير الأبرز في خارطة قرن برمّته يكاد ينحصر بنقل سنجق الإسكندرون، ومن ضمنه عاصمة سوريا في العصر الهلنستي، أنطاكية، الى السيادة التركية عام 1938. لقد استقرّت الخارطة منذ 1921 مع قيام العراق، وعلى الاكثر منذ 1925 بعد صرف الفرنسيين النظر عن فرز عدة كيانات في سوريا. وتعثرت بالنتيجة مجموعتان من المحاولات لمراجعة الخارطة المستقرة قبل مئة عام. المجموعة الأولى هي المحاولات لتخطي هذه الخارطة بالتوحّد. بالنتيجة، كل خطابية التنديد بسايكس بيكو (الذي لم يكن الا توطئة لمسار أفضى الى خرائط مختلفة تماماً عن بداياته في نهاية المطاف) والرغبة في كسر نظام التجزئة القطرية، وكل الوحدات التي تحدّت الخارطة المستقرة عام 1921، من الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا الى الاتحاد الهاشمي، الى كل محاولات العراق لمراجعة بروتوكول 1913 حول حدوده مع إيران في منطقة شط العرب، وصولا الى الحرب العراقيةالإيرانية، الى المسعى الضمني لحافظ الأسد بتحقيق نوع من الإلحاق العضوي للبنانبسوريا، كل هذه المحاولات العاملة على تغيير الخارطة بالدمج، ظلت تتحرك ثم تعود إلى نقطة ملازمة الخارطة إياها. وكذلك مع احتلال العراق للكويت. عاد وأجبر على الإنسحاب منها بالحرب، فيما انسحب الجيش السوري بلبنان بالضغوط العربية الدولية والغضب الشعبي بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. والمجموعة الثانية هي كل محاولات تجزئة البلدان القائمة وإنتاج كيانات جديدة. لم تحقق كل هذه المحاولات قيام خطوط رسمية جديدة على الخارطة. فحرب لبنان التي أعقبت الاجتياح التركي لقبرص بأقل من عام، الى درجة شاع وقتها الحديث عن «قبرصةلبنان» أظهرت بالنتيجة ان ل«اللبننة» سياق مختلف: عدم التمكن من افراز خارطة جديدة، والرجعة القهقرى الى خارطة العام 1920، بصرف النظر عن التصدع العميق في بنية المجتمع والدولة، بل الكيان الوطني نفسها. ثمة في المقابل مختبر لمراجعة الخارطة في كردستان العراق كما في حالة روجافا، لكن حتى اللحظة لم يفرز هذا المختبر خارطة بديلة رسمية أو معلنة، رغم مضى ثلاثة أعوام ونصف على تنظيم استفتاء استقلال كردستان العراق. من أين تأتي خارطة المشرق بكل هذا الثبات؟ لم يتبدل شيء منها تقريبا منذ مئة عام، إلا ضم الإسكندرون لتركيا، وتقاسم المنطقة المحايدة بين العراق والسعودية، واستمرار احتلال إسرائيل لهضبة الجولان السورية. لم تتبدل الخارطة الإقليمية رغم الفشل الذريع سواء للأنظمة أو للكيانات، ورغم كارثة قومية حضارية بحجم استعمار الحركة الصهيونية لفلسطين وتشريد شعبها، انما ضمن الحدود البريطانية نفسها، وبخاصة من بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوبلبنان. في المقابل، تبدّلت خرائط البلقان ما بعد العثمانية كثيراً، وظهرت ثم فشلت مشاريع كثيرة، ليونان كبرى وبلغاريا كبرى وصربيا كبرى والبانيا كبرى ورومانيا كبرى، وانفجرت الوحدوية اليوغوسلافية، انما يمكن القول أنها اليوم تبدو منطقة أكثر استقراراً من أي وقت سابق. الحيوية التي لعبت دوراً كبيرا في تبديل خرائط شعوب البلقان مثلتها المطالبات المحمومة بتوسعة كيان أو بالانضمام الى الكيان المجاور، أي تخليص ما لم يُخلَّص بعد، أو ما يُعرَف عن الإيطالية أساساً، بال irredentismo أياً يكن من شيء، عرفت شعوب المشرق العربي وحدويات فاشلة، وتقسيمات متردّدة، لكنها لم تعرف الصنف نفسه من هذه «الإيردنتية». ومع ذلك، يمكنك اليوم ان تتخيل ان يحافظ البلقان على خارطته الحالية لمدة طويلة، ويصعب ان تتخيل الشيء نفسه لشعوب المشرق العربي. يصعب ان تتخيل بصددها شيئا. القدس العربي