هناك ظواهر صاحبت المثقف وتحولاته في النصف قرن الأخير، تستحق التأمل والقراءة الحيادية. فهي من أكثر السنوات عصفاً باليقينيات الثقافية التي نام عليها المثقف العربي زمناً طويلاً، خارج دوائر السجال والنقد، بعد إخفاقات مريرة مست كل التجارب التنموية والديمقراطية والخيارات السياسية، وفشلت القومية والليبيرالية والاشتراكية والإسلامية في الانتقال بالبلدان العربية نحو مدارات الحداثة والتطور، فوجدت نفسها أمام وضع غير مسبوق عليها مواجهته، وأمام ضغوط شعبية ظلت وفية لخطاباتها الإنسانية والنضالية القديمة. اليقين الذي كان سيد أي ممارسة سياسية أو ثقافية أصبح لا شيء في ظل فترة اليأس والخراب البنيوي الذي خلفته التغيرات الدولية والمحلية في البلدان والعباد، وتراجع المثقف «العضوي» على تعبير غرامشي، ليجد نفسه ضحية خياراته، وحل محله مثقف غريب الأطوار، لا يحمل من الثقافة إلا قشورها البراقة خارج الخيارات الاستراتيجية التي جعلت منه عضواً فعالاً حقيقة مهما كانت إخفاقاته التي عزلته. مثقف يستحق أن نتوقف عنده ولو قليلاً، لأنه مهم من حيث الحضور المكثف، ويملأ المشهد اليوم ثقافياً وسياسياً. بحجة الترهين والتشبيب، فقد تمدد هذا المثقف الذي لا يكف عن الاستماع إلى المكان الذي يأتي منه الرنين الأقوى، ليتوجه نحوه. هو في الأماكن والمساحات كلها التي سمح بها النظام المنهك والضّعيف، الذي يرفض أن يتغير؛ لأن ذلك يعني لعباً غير مأمون بالنار وبمصيره ووجوده. في ظل الأزمات التي عصفت بالكثير من البلدان العربية التي كانت تشكل قوة حقيقية في المنطقة، العراق، سوريا، الجزائر، ليبيا، مصر، وأرجعتها إلى الوراء أو أغرقتها في حروب أهلية لا تنتهي، نشط هذا النوع من المثقف متنصلاً عن كل قناعة سابقة، شاتماً المراحل السابقة التي اتسمت ب«الدوغما» التي حاربها هو بشجاعة، في وقت صمت الآخرون، حتى يسمعه وكلاء الاستابلشمنت المسير لمقدرات البلدان العربية. وبذلك اقترح هذا المثقف نفسه كبديل «تعويضي» عن المثقف «العضوي» الذي على الرغم من دوغمائيته، فقد التزم دوماً بقضايا وطنه حتى ولو كان ذلك بشكل رومانسي وبأحلام «زرقاء» سرعان ما أجهز عليها النظام في الوقت الذي رآه مناسباً ليسطر مسالكه الجديدة المبنية على الاستفادة من الريع النفطي أولاً وأخيراً، وكراهية المثقف «العضوي» لسبب بسيط وهو أن هذا المثقف، عبر المراحل التاريخية الحديثة، كان دائماً ناقداً ومنشئاً لخطاب كثيراً ما دحض الخطاب الرسمي، والنظام الديكتاتوري العربي لا يريد من يناهضه في قناعاته أحد. نظام مهزوم داخلياً، يقبل بكل شيء إلا أن ينشئ هذا المثقف مساحات للنور والضياء. لهذا، كثيراً ما تعرض المثقف «العضوي» للاغتيال والسجن، وفي تاريخنا العربي الكثير من هذه النماذج. فقد اغتيل كريم بلقاسم في ظرفية غامضة وهو رئيس الوفد المفاوض من أجل استقلال الجزائر، واغتيل بن بركة في ظرف لم ينط السر عنه حتى اليوم، مات في المنافي الداخلية أو الخارجية، الجواهري، سعدي يوسف، بشير حاج علي، محمد ديب، كاتب ياسين، ميشيل كيلو، عبد الكبير الخطيبي، وغيرهم كثير، لدرجة أن أفرغت الأوطان العربية من كل ما كان يؤهلها لأن تواجه الزمن المقبل بصرامة وتبصر وثقافة. لم يعد أحد يذكر ذلك الجيل الذي تم محو معالمه أو كاد. ونشأ خطاب المثقف التعويضي وانتشر، وهو الذي ظل زمناً طويلاً يتشكى من التهميش، ولا عمل له إلا خوض الحرب الضروس التي فشل النظام فيها: حصار الثقافة العقلانية وخوض الحرب «المدنسة» بالتشويه ضد كل مثقف «عضوي» لا يسير في ركب النظام. المثقف «التعويضي» جاء ليصحح ويعوض «دوغما» المثقف «العضوي» الذي عانى من كل التسميات الجاهزة: التغريبي، الشيوعي، الليبيرالي، البورجوازي، الكافر، الزنديق، الذي عاش جيل منه في السرية عشرات السنين حتى الموت، وظل مقتنعاً بمبادئه، اختار جزء منه طريق الرماد والمنافي القاسية التي عزلته عن أرضه، وقللت من فاعليته. جاء «التعويضي» وهو لا يملك إلا انتهازيته المقيتة التي بها دخل في صالونات النظام لأول مرة منبهراً، إذ إن أغلبية هذه النخب جاءت من مجتمعات فقيرة، لا ليغير لكنه ليلبس ألبسة النظام وطرحته، ويتوغل في أعماقه في سباق محموم مع منافسين خطيرين، يشبهونه في كل شيء، للحصول على بركاته. فهو من أكثر الناس إدراكاً لهشاشة النظام وقرب زواله، لهذا لا يترك فرصة تمر دون استغلالها بعمق. إذا فلتت منه الوزارة التي ترفعه عالياً وتمنحه وجاهة خاصة يحتاجها للنفوذ، لن يترك الفرصة تمر دون قنص سفارة، ضمت سفيراً أو قنصلاً أو حتى ملحقاً ثقافياً، أو مديراً مركزياً. وإذا خسر ذلك، يقفز نحو الولاية أو الدائرة، أو إدارة مؤسسات كبيرة تجعله في تماس مع مجتمع يحتقره. ولم لا يكون مديراً للثقافة تمر عبره كل البرامج الثقافية والهياكل الجديدة التي يشترك فيها مع عصابات النهب من المديرين والمقاولين وذوي السلطة من رجال الأعمال والعساكر؟ ويكبر في الظل إلى أن يصبح قوة وبجناحين واسعين يراقبان الفرص والمصالح قبل الانقضاض. فجأة، أصبحت الوزارات العربية والمؤسسات مرصّعة بأسماء مثقفين تعويضيين من هذا النوع. جيل جديد لضمان المستقبل. مشكلة هذا النوع من المثقفين أنهم بلا قيم مطلقاً، يلبسون الألبسة التي تقصل لهم، لا يحبون فقط ما يحبه النظام، لكنهم يبررون كل خطواته المباركة. حتى عندما يكون النظام جهوياً للتفريق بين أفراد الأمة، يحول الجهوية مطلباً حضارياً لمزيد من حريات الجهات، أو عرقياً، فينتصر لها بقوة ويصبح ما عداها مرضاً اجتماعياً مقيتاً يجب استئصاله. وكلما انتقد أحدهم النظام ككل أو ممثلاً في أحد رموز حكومته، تراكضوا كجوقة كلاب مسعورة مدافعين بشكل أعمى، في شكل شتائم وتشويهات، وذباب إلكتروني يتوغل في أعماق الأدمغة والأجهزة ليبطل مفعول أي فكرة نقدية. ويصبحون طابوراً خامساً أو حائط صد ضد المعرفة باسم الثقافة، وضد الديمقراطية باسم الخصوصية الوطنية. يملأون الشاشات الوطنية بخطاباتهم الدفاعية العمياء. فجأة، يصدقون أنهم أصبحوا مهمين، بل وضروريين ولا يمكن للنظام أن يتخلى عن خدماتهم، وينسون أنهم في النهاية لم يكونوا أكثر من مثقفين «تعويضيين» عن لحظة فراغ ولضرب المثقف «العضوي» الذي يكرهونه. يدافعون مثلاً عن الثقافة والمثقفين، والمجتمع المدني، والسياسات الثقافية التي يتخيلونها. النظام، بأجهزته الجهنمية، يتركهم يفعلون مؤقتاً في مساحة هو من حدد أطرها ومحيطها وقطرها، يحسسهم بالخلود في مناصبهم. لكن فجأة يتحولون إلى فقاعات في الفراغ تنفجر من تلقاء نفسها، بمجرد ما تنتهي أدوارهم الصغيرة، أو يتغير المسؤول، أو الوزير الذي يجر وراءه «جماعته» ومن هم أكثر ولاء له. فجأة، يجد جيش المثقفين «التعويضيين» أنفسهم خارج المدار، بلا شيء، أو منصب يشبه اللاشيء، في حالة يأس كلي. ينقسم هذا الجيش إلى فريقين لامتصاص الصدمة: فريق يروج لاستقالته بسبب مواقفه الثقافية، وهو في الحقيقة أقيل. وفريق أذكى، جماعة «وايت أند سي» wait and see ، انتظر وراقب. رضع من حليب الذئبة، ينتظر بلا ملل، حتى ينادى عليه لمهام جديدة. بينما الطرف الأول يصبح معارضاً، يتمادى في تطرف تصريحاته التي تزعج النظام، ليس عن موقف، لكن ليخبر النظام أنه هنا، وعلى النظام أن ينتبه لقدرته على الأذى. ينتظر أن يؤشر له النظام بالأصبع الصغير، ليركض نحوه ككلب حراسة. القدس العربي