بدءاً من الغلاف، يرقدُ رائد فضاءٍ يبدو أنّه سقط من علوٍّ سماويّ شاهقٍ على أسفلت أحد الشوارع في مدينة يمكن لأيّ واحدٍ منّا أن يشعر أنّها المدينة التي وُلد فيها. لا حطامٌ ولا دمٌ نازف. الشارعُ نظيف، وبالتالي فإنَّ السقوط لم ينجم عن أي حادث. إلى جانب رائد الفضاء، تقوم حمامةٌ هادئة، لا مبالية إلى حدٍّ ما، بتفتيش الشارع بحثاً عن قشّةٍ لكي تبني عشّها المستقبلي. في الأعلى، تماماً فوق رائد الفضاء، اسم المؤلّف. إنّه الكاتب البوليفي إدموندو باث سولدان، أحد الأسماء البارزة في أدب أميركا اللاتينية، والذي يصوّر لنا في عمله القصصي الخيالي الجديد، "طريق المستقبل"، الصادر عن دار Páginas de Espuma المدريدية، مخاوف تبدو مألوفة أكثر ممّا نودّ، مستكشفاً بذلك آفاق العلاقة المزعجة تارةً، والمحيّرة، تارةً أُخرى، بين الإنسان والذكاء الاصطناعي. هكذا، في ثماني قصص مستقلّة، لكلٍّ منها موضوعها الخاص، ولكنها جميعها ذات صلة، وكأنها كواكب تسبح في المجرّة نفسها، يُصوّر لنا باث سولدان شكل عالمنا المستقبلي المليء: كنيسة يُقدَّس فيها الذكاء الاصطناعي، مجتمعات إنسانية يقودها الهولوغرام؛ مخلوقات فضائية مجهولة تعبر في مدننا وتتنزّه في شوارعنا بأجسامها الطائرة، روبوتات أليفة نصحبها للتنزّه كأنّها حيوانات أليفة، روّاد فضاء يمتلكون كلّ شيء إلّا الذاكرة، والمخدّرات التي تنقلنا إلى بُعد آخر. يتأمّل الكاتب في هذا المستقبل الافتراضي المزعج ويطرح أسئلته: هل سيعبد البشر، في نهاية المطاف، الآلة؟ وهل سيكون للآلة حقٌّ علينا؟ وكيف يمكن لإنسان اليوم أن يعيش في تناغُم داخليّ، جسديّ وروحانيّ، في ظل هذا التبدّل والتحوّل الخارجي الكامل للمحيط الذي نعيش فيه؟ يحاول باث سولدان الإجابة عن هذه الأسئلة والكثير غيرها التي تضع الإنسانية في مواجهة عمودية مع الابتكارات والاختراعات التي تصنعها والتي لا تفعل إلّا شيئاً واحداً فحسب: زيادة الهاوية بين الإنسان وواقعه. ضمن هذا السياق، يرسم الكاتب معالم شخصيات مضطربة تحاول العثور على مكانها في وسط محيط طبيعي لا نعرف فيه ما إذا كانت الآلات تفكّر في شيء مختلف عن ذلك الذي صنعها خالقوها من أجله. هكذا يسرد الكاتب البوليفي زمناً حاضراً صارت فيه الآلات والخوارزميات غير مرئيّة، غير أنّنا كبشر نعيش على هذا الكوكب، لا نستطيع أن نفعل أي شيء، عملياً، إلّا بمساعدتها. على الرغم من الآفاق الافتراضية التي يفتحها باث سولدان على أشكال العلاقات الإنسانية مع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، فإنَّ كلّ قصة تستند، في حقيقة الأمر، إلى أرضيّة واقعيّة يمكن من خلالها النظر إلى صورة القرن الحادي والعشرين وتنبُّؤ ما ستكون عليه الحياة مستقبلاً. سيلاحظ القارئ، على الرغم من أنّ الكتاب خيال علميّ محض، أنّ موضوعاته تلامس الواقع الذي يعيش فيه إنسان هذا العصر، بما في ذلك المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي نواجهها يومياً، لا سيّما القصّة التي يسرد فيها حكاية قرية يعمل أغلب سكّانها، بفرح لا يوصف، في إحدى الشركات، على الرغم من ظروف العمل اللاإنسانية، ولكنهم مع ذلك يحترمون ويدعمون إلى أبعد الحدود مديرهم القادم من الطبقة الاجتماعية نفسها التي ينتمون إليها، لكنّه تمكّن من تجميع ثروته وصار رجل استثمارات مهمّاً يشجعهم على الاستثمار في خطاباته النارية ويؤكّد لهم أنهم سيكونون يوماً ما قادرين على محاكاة مآثره. ما إن تصل القصّة إلى نهايتها، حتى يدرك القارئ أنّ المدير المليونير، نظراً لانشغالاته الدائمة، يتحدّث إلى عمّال القرية من خلال صورة هولوغرامية ثلاثية الأبعاد. هنا يختم الكاتب البوليفي قصّته بسؤال مفتوح يترك جوابه للقارئ نفسه: هل كان هذا المدير موجوداً حقّاً أم أنّه محض خدعة؟ يُقرّ باث سولدان بأنه بدأ بفكرة الكتاب عندما قرأ تقريراً يتحدّث عن أنّ أحد المهندسين التقنيين في شركة "غوغل" قام بتقديم طلب للحصول على براءة اختراع لتأسيس ما يُسمّى كنيسة الذكاء الاصطناعي، فاستهوته الفكرة وراح يعمل على مجموعته القصصية مأخوذاً بفكرة ألوهية الآلة: "قد تبدو هذه الفكرة، من الناحية النظرية، مقبولة، ذلك أنّ الإنسان لطالما احتاج إلى إله، على مر العصور، لتنظيم علاقته مع هذا العالم، ومع الغيب. يقوم كلّ منا بتصوّر الإله على طريقته الخاصة. يبدو أن الذكاء الاصطناعي سيسهّل علينا هذه المهمّة، ذلك أننا بدأنا منذ الآن بتأسيس علاقات روحيّة مع الآلات التي تحيط بنا: الهاتف الجوّال، مثالاً لا حصراً، لا يفارقنا. هناك برامج تطبيقية اليوم تساعدنا على تنظيم علاقاتنا الحميمية مع مَن نحبّ. التقدّم العلمي لا يقتضي أن يكون الروبوت عدائياً، وأنه في لحظة ما من المستقبل سيثور على الإنسان ويهاجمه. في حال كان هذا الافتراض قائماً، دعونا، إذاً، ننظّم علاقة مع هذه الآلات ونتعامل معها بالطريقة الأمثل لكي تتذكّرنا مستقبلاً وتُعاملنا بالمثل. على كل حال، أعتقد أن الآلة اليوم صارت جزءاً منّا، لقد أصبحت في داخلنا. أعتقد أنّنا تحوّلنا، بشكل أو بآخر، إلى بشرٍ-آلات"، يوضح الكاتب البوليفي. قد يصعب علينا تخيّل مستقبل طوباوي نكون فيه جميعاً سعداء، لا سيّما وأننا نعيش خلال الآونة الأخيرة في حاضر مستمرّ، يبدو فيه توقّع احتمالات وإمكانيات إيجابية أمراً عبثيّاً. لقد جعلنا وباء كورونا اليوم أكثر وعياً إزاء ضرورة التكنولوجيا، وقد تفاقم هذا الشعور فينا إلى درجة أصبح الخيال العلمي هو السبيل الوحيد لتخيّل هذا المستقبل المنشود الذي نأمل أن نبني فيه شيئاً من ركام هذه الأزمات الإنسانية. منذ عقد من الزمن كان الكاتب البوليفي إدموندو باث قلقاً من أن يُنظَر له على أنه كاتب جنس أدبي بعينه. ممّا لا شك فيه أنه اليوم، بعد أكثر من تجربة سردية في جنس الخيال العلمي، أو الأدب الخيالي، كما يحبّ أن يطلق عليه، صار واحداً من أهمّ روائيّي أميركا اللاتينية الذين يكتبون الواقع بدءاً من الخيال.