بدا الأمر أشبه بالمفاجأة، إذ توصل خبراء الذكاء الاصطناعي في «معهد ماساشوستس للتقنية» أخيراً، إلى ابتكار روبوت حرصوا على أن يكون ذكاؤه شديد القرب من ذكاء البشر عموماً. ليس ذلك أمراً جديداً ولا مُفاجئاً. سرعان ما تفجّرت مفاجأة تامة مع تبيّن أولئك الخبراء الروبوت الذي صنعوه بتفانٍ ودقة، أظهر اضطراباً يشبه ما يحصل عند البشر، بل كان اضطراباً نفسيّاً في عمق «شخصيته» جعلته منحرفاً وميّالاً إلى الأذى والقتل بدم بارد. وبضربة مفاجئة، أطلق ذلك الروبوت المنحرف إجراميّاً موجة في بحر لم تكن مياهه أبداً لتكف عن الهيجان، يتمثّل في الإشكالية الضخمة المرتسمة في علاقة الإنسان مع الشر والقتل وسفك الدماء، وتلك إشكالية لم تتوقف حضارات البشر عن القلق في شأنها. ويصح القول أن ذلك كان مفاجأة سيرد تفصيلها بعد سطور قليلة، على رغم وجود بعض «سوابق» في عوالم الذكاء الاصطناعي عن علاقة الروبوت بالقتل كالأسلحة المؤتمتة، وتلك الغلطة الشهيرة التي وقعت بها الروبوت – الأنثى «صوفيا» في حديثها في ظهورها الأول عام 2015 عن رغبتها في قتل البشر، قبل أن يجرى تصحيح برامجها، بل صارت «ناشطة» تستخدم في الحملات الإعلاميّة العلمية الرامية إلى وقف إنتاج الروبوتات – القاتلة Killer Robots! كذلك أعاد الاضطراب النفسي الإجرامي للروبوت المشار إليه آنفاً، سؤالاً مريراً عن مسألة الذكاء الاصطناعي برمته، والآفاق المقلقة التي طالما راودت الخبراء في شأن محاولة الإنسان صنع نموذج عن عقله وذكائه. هل كان الأمر مفاجئاً فعليّاً؟ ما هي المفاجأة في أن يصاب الروبوت الذي قُصِد منه أن يكون مشابهاً ومحاكياً لتفكير الإنسان في المعنى الواسع للكلمة، بانحراف نفسي يجعله يميل إلى القتل بدم بارد، بل ربما مع شيء من «السعادة»؟ ما هي المفاجأة في أن يكون «نظير» البشر الآلي المؤتمت، لا يجد حلولاً للمشكلات إلا بالقتل والمزيد منه؟ ألم يدأب البشر أنفسهم على فعل ذلك منذ بداية تاريخهم، بل إن أول أخوة معروفة بينهم [قابيل وهابيل] فعلت ذلك تحديداً؟ مهما تفاوتت وجهات النظر، فالأرجح ألّا تكون الإجابة سهلة. وبشيء من الإنصاف أيضاً، يمكن القول أن خبراء الذكاء الاصطناعي في «معهد ماساشوستس للتقنية» صبّوا اهتمامهم كاملاً على المعطيات التقنيّة المباشرة المتعلقة بالمعلوماتية والأتمتة وتعليم الآلات وتقليد الذكاء بالوسائل المؤتمتة. ولكن، ربما كانوا أيضاً يحدسون بأن شيئاً ما سيحدث، خارج تلك المعطيات العلمية الصارمة. لنقل أنهم ربما تعمّدوا ذلك أيضاً. ويتضح ذلك من قيامهم عند بداية العمل على برامج ذلك الروبوت، أطلقوا عليه اسم «نورمان»، باقتباس صريح لاسم بطل فيلم «سايكو» (Psycho 1960) الشهير للمخرج الأسطوري لأفلام الرعب آلفرد هيتشكوك. ولمن فاته الشريط الذي تألّق «سيد التشويق والرعب» في صنعه، يجدر التذكير بأنه يتناول شخصية الشاب المُعقّد نفسيّاً نورمان الذي يتنامى الخلل في تركيبه النفسي – الإجرامي فيصير قاتلاً يرتكب جرائم بالتسلسل. ثمة استطراد سينمائي، قبل العودة إلى الروبوت، إذ هنالك ميل شائع إلى القول أن قوة الرعب في أفلام هيتشكوك تأتي من الشيء العادي، وليس من الإفراط في العنف والقوة. يأتي الرعب الهيتشكوكي من «المُرعِب» الكامن في الإنسان العادي، عندما ينفلت لسبب أو لآخر، فيجعل العادي المسالم قاتلاً دموياً لا يردعه شيء. المجرم في الإنسان العادي هو «صندوق باندورا» الذي استخرج منه هيتشكوك كل الرعب العميق والفعلي لأشرطته التي صارت من صلب الثقافة البصرية التي تصنع الفن السابع. ثقافة ال «سوشال ميديا» وتشابكتها المفارقة، أن الثقافة البصريّة (لكن الفعلية هذه المرّة، وليس المصنوعة بالفن) هي من أسباب تحوّل الروبوت الذي يفترض أن يتحرك وفق معادلات رياضيّة محايدة وفعّالة، إلى قاتل منفلت. في التفاصيل، أن خبراء «معهد ماساشوستس» جرّبوا أن يدربوا برامج الذكاء الاصطناعي في الروبوت على تعلّم أشياء من الحياة الفعليّة للبشر. وتحديداً، أجري تدريب برامج «نورمان» عبر التغذية المستمرة من صور وتعليقات في قسم متفرع من موقع «ريدإت» Reddit (وهو من مواقع شبكات التواصل الاجتماعي) هو «آر/ ووتش بيبول داي» Watch People Die (= ترجمة الاسم حرفياً هي «راقب الناس وهم يموتون»)، المختص في تجميع مشاهد عن ميتات البشر وجرائمهم. وبعد فترة من تدريب برامج الذكاء الاصطناعي على قراءة تفاصيل تلك المشهديات، وكذلك «فهم» التعليقات التي يتركها مشاهدو ذلك الموقع السيئ الصيت، على مشاهدات الموت البشرية، لم يعد الروبوت يعطي سوى الموت حلاً للمشكلات كلها. وقبل أن ينفلت خيال البعض، بدهي القول أن خبراء المعهد لم يتركوا ل «نورمان» مساحة لارتكاب جريمة قتل فعليّة. وعمدوا إلى قياس طريقة تفكير ذلك الروبوت عبر اختبارات نفسيّة معروف أنها تقيس الميول النفسيّة للبشر بصورة عامة. ولعل من يتابع علم النفس، يعرف جيّداً ذلك الاختبار النفسي المعروف باسم «لطخة الحبر» Ink Blot الذي ابتكره عالِم النفس السويسري هيرمان رورسشاش (1884 – 1922)، بل إن الاختبار يعرف أحياناً باسم مبتكره. ويرتكز الاختبار على وضع نقطة من الحبر بين ورقتين، ودعكهما برفق. وعندما تنتشر لطخة الحبر تصبح لا شكل محدداً لها. ثم تعرض على من يطبق عليه الاختبار كي يتحدث عما تراه عيناه في تلك اللطخة. وبدهي القول أن كل شخص يُسقِط على ذلك الشكل غير المحدد، الأشياء التي تتبادر إلى ذهنه أولاً. ومن غير استثناء، كانت توصيفات الروبوت «نورمان» (وهو أيضاً أول روبوت يتعرض لاختبار «رورسشاش»)، مملوءة بالموت كلها، من نوع «أرى رجلاً هشمته الرصاصات وزوجته تصرخ قربه» و «إنساناً سحبته مهرسة ضخمة» وغير ذلك.