كثيراً ما نخطئ عندما نخلط بين النقد الجامعي والأكاديمية ونعتبر كل نقد جامعي فعلاً أكاديمياً بالضرورة، مع أن أغلبه مرتبط بشهادة جامعية (الماجستير أو الدكتوراه) تؤهل صاحبها للتدريس والدوام والعمل التعليمي النبيل، لكنها لا تؤهله شرطاً للبحث الأكاديمي الذي يعني شيئاً آخر أكثر دقة. الأستاذية بالمعنى التعليمي، مهنة وليست شيئاً آخر، لها قيمتها في مكانها وفي الوظيفة التي تؤديها لا كثر، وتأتي ثمرة لجهد كبير بذله صاحبه ليحصل على الشهادة وليرتقي إلى التعليم (على الرغم من الغياب الكلي للتكوين البيداغوجي المسبق، إذ يصبح أستاذاً جامعياً بمجرد حصوله على الشهادة والعمل) لكن ذلك كله لا يجعل منه بالضرورة أكاديمياً إلا إذا جعل من البحث خياراً حياتياً حقيقياً، إضافة إلى جهد «التعليمي» وليس بالضرورة. يمكن للأكاديمي أن يظل في مركز بحث علمي ينتمي له لينجز مشروعاً ثقافياً ومتخصصاً ودقيقاً. وهذا يعني أن الأكاديمية ليست تعليماً فقط، ولكنها أيضاً تسخير الجهد العلمي المميز (ليس شرطاً أن يكون الأستاذ المعلم يملك هذه الخاصية وهذه الموهبة) في البحث والمتابعة في العمل التخصصي حول قضية ثقافية أو علمية معينة، وتقصيها وفق برنامج مسبق يحدد فيه زمن البحث وزمن الإنجاز، مع فريق عمل مكون من زملاء وطلبة يتم تحضيرهم لهذا الغرض الأكاديمي، ويكلف كل واحد منهم بجزئية تدخل ضمن الموضوعة الكلية التي يتم العمل عليها. في الأفق دوماً مشروع تعمل المجموعة الأكاديمية على إنجازه، وكون الشخص أستاذاً جامعياً لا يجعل منه أكاديمياً. قد يغضب هذا الكلام الكثير من الزملاء الجامعيين بالخصوص الذين لم يكتبوا حرفاً واحداً منذ أن تحصلوا على الدكتوراه، وعلى منصب جامعي، أو اكتفوا على مدار السنوات المتتالية بسلخ رسالة الدكتوراه التي أنجزوها قبل عشرين سنة ويزيد، في الندوات الجامعية والترقيات، والمحاضرات الطلابية. أقول هذا وفي رأسي عدد لا يستهان به من الزملاء الذين عرفتهم. ينسون كل شيء إلا حرف الدال التي تسبق أسماءهم. وفي السنوات الأخيرة أضيفت كلمة «بروفيسور» التي تعني ببساطة «الأستاذ»، وكان يمكن أن يُكتفى بكلمة أستاذ. التحولات اللغوية المتسارعة التي شهدتها العشريات الأخيرة واستعمالات الألقاب المبالغ فيها، أفقدت كلمة «أستاذ» بريقها. عندما كتب الأكاديمي الكبير تزفيتان تودوروف (الذي لم يرفق اسمه قط بحرف الدال (تخيلوا الدكتور توتوروف؟ الدكتور جيرار جنينت؟ الدكتور رولان بارث، الدكتور كلود بريمون؟ الدكتورة جوليا كريستيفا...) كتابه النقدي الصغير المميز: «الأدب في خطر La littérature en Péril»، كان يجدد وظيفة الناقد الجامعي أو الأكاديمي ويعلن بشكل صريح عن إخفاق التعليمية (من تعليم ولا نقصد (Didactique في مهمتها الأساسية التي كان يفترض أن تتساءل عن مهمتها الحقيقية، أي ليس فقط إعطاء أدوات القراءة ولكن اختبارها ميدانياً أيضاً. هي الدفع بالقارئ نحو النص الإبداعي، الروائي بالخصوص، لفهمه وفهم آلياته عن طريق ما كان يمنحه العصر من إمكانات ومقاربات منهجية اعتماداً على البنيويات المختلفة والسميائيات والتفكيكيات التي وظفت الجهد الجامعي للتوغل عميقاً في النصوص الأدبية، وحبها في النهاية؟ لكن الذي حدث هو أن النص انغلق على المقولات الأكاديمية الجامدة بدل أن يشي بغناه الداخلي. لقد فشلت التعليمية حيث تفوقت الأكاديمية. شكل هذا الكتاب الصغير، أو الصرخة النقدية «الأدب في خطر»، علامة فارقة بالنسبة للنقد الجديد وفي كيفيات التعامل مع النص الأدبي الذي كان يحتاج، ربما، إلى مقاربات أقل تعقيداً وأكثر إغواء للقارئ. نتج عن ذلك موجة نقدية سلكت طرقاً أخرى نحو النص الإبداعي غير تلك التي حصرته في دائرة مغلقة باسم الأدبية والشعرية المفرطة. وهوّت المجال الأكاديمي أكثر ففتحت القراءة على أبوابها الثقافية الأكثر اتساعاً. من هنا تشكل تجربة تودوروف حالة فيها الكثير من التمايز والإبداعية وتستدعي الكثير من التأمل. وربما كانت هي أول جهد صريح وضع «التعليمية» في حالة حرج حقيقي. ولم يخرج جهوده الأكاديمية وجهود زملائه من هذه الحالة الصعبة. فقد انفصلت تجربته بسرعة عن المناهج النقدية التاريخية أو الشكلانية المفرطة والمعزولة، وذهبت نحو النقد الجديد بمختلف مدارسه وتشكلاته التطبيقية واختبار ذلك كله ميدانياً من خلال الخبرة الشخصية الأكاديمية الحقة والخلاقة. فكان من القلائل الذين أدخلوا تهوية كبيرة على النقد الجامعي، ليس فقط في فرنسا ولكن في العالم والعالم العربي تحديداً، الذي ما يزال يعاني من ثقل كبير من أكاديمية شكلية ظلت محصورة في الدرس الجامعي، ولم تستطع أن تحقق اتساعها، مما جعلها رهينة قدر يكاد يكون محتوماً: ما ينجز في الجامعة، كيفما كانت قيمته النقدية، من جهود علمية وندوات متخصصة ورسائل أكاديمية وأبحاث، يموت في الأغلب الأهم بين حيطانها. منح تودوروف الدرس الجامعي مساحات جديدة أجبر على ارتيادها إنقاذاً لإبداعية النص الأدبي. كل ما كتبه في سنوات حياته الأخيرة ظل يسير وفق هده الخطية وينحو بهذا الاتجاه الذي يسائل المسلمات التي تربت أجيال كثيرة عليها. احترام الأكاديمية الذي يفترض توغلاً عميقاً في النص من خلال وسائط نظرية محددة سلفاً لا يعني مطلقاً أن يظل النص الإبداعي رهيناً لها كلياً، وخاضعاً لنظامها بشكل قهري. أدرك تودوروف، في وقت مبكر، أن هذه التعليمية القاصرة تجعل من النصوص مجرد ترديدات لنظريات جاهزة، فتموت الخصوصية الإبداعية وغنى النص. فقد نزع الحواجز بين الرواية وتتبع الكثير من توتراتها الموضوعاتية والفنية، وبين الجامعة التي ما تزال في كثير من البلدان العربية تحديداً، قلعة موصدة في وجه الإبداعية المعاصرة بحجة أن هذا الإبداع في طور التكوين ولم يستقر بعد، وكأن على الجامعة أن تقتفي فقط آثار الأموات، ولا علاقة بتوترات عصر يتكون، يتشكل ثم يتحلل بسرعة غير مسبوقة، في زمن الرقمية المتسارع الذي هو بصدد تغيير كل شيء. بل سيشكل انقلاباً كبيراً في القيم والمفاهيم. القدس العربي