أثار النشر على وسائل التواصل الاجتماعي كثيراً من الإشكاليات القانونية والسياسية، التي بلغت ذروتها مع وصول الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى الحكم عام 2016. اشتكى أنصار المعسكر السياسي الأمريكي الآخر، أي الحزب الديمقراطي، من استغلال أنصار ترامب، ربما بالتواطؤ مع أعداء خارجيين مثل روسيا، لمواقع التواصل بهدف التأثير في الرأي العام، ونشر الأخبار الكاذبة؛ دون طرح أي أسئلة جديّة عن استغلالهم هم لآليات التحكّم بالرأي، ومدى «حقيقة» الأخبار والتحليلات التي ينشرونها. في كل الأحوال مشكلة مواقع التواصل أعمق من الجدل الأمريكي حولها، حتى لو كان العامل الأهم في طرحها. عندما يكون في إمكان أي شخص التعبير عن نفسه كما يشاء، في حيّز يُعتبر عاماً، وفي كل وقت؛ ونشر ما يراه «حقائق» دون أي ضوابط عامة أو مؤسساتية، فسنواجه إشكالية قانونية معقّدة: هل نطبّق قوانين النشر والإعلام والمطبوعات التقليدية على تعبيرات الناس «التواصلية» وليس «الإعلامية»؟ وإذا فعلنا ذلك فهل سيستطيع الناس الكلام فعلاً؟ ألن يظلّ عندها التعبير العام مُحتكراً لمؤسسات ونخب، قادرة على ترخيص قدرتها على التعبير، نظراً لإمكانياتها المادية، واندراجها ضمن معادلات سلطوية وسياسية معيّنة؟ وبالتالي نحرم البشر العاديين من الإمكانية المستجدّة للتعبير والنشر، التي وفّرتها لهم مواقع التواصل؟ كيف نُعرّف «خطاب الكراهية» أو «التحريض على العنف»؟ كم رقيباً يجب تعيينه لضبط تعبيرات مئات الملايين من المستخدمين، من كل الثقافات واللغات والتوجهات السياسية؟ بعبارة أخرى: هل مواقع التواصل وسائل إعلام وحيّز عام، ويجب معاملتها على هذا الأساس؟ أم أنها فضاء تعبيري وتواصلي جديد، يمكن ابتكار آليات وقوانين مختلفة لتنظيمه؟ ومن الجهة التي يحقّ لها تقرير هذا؟ المؤسسات العامة والقانونية في الدول الديمقراطية؟ أم الشركات الكبرى وجماعات الضغط؟ إدارات مواقع التواصل قررت القفز فوق كل تلك الإشكاليات المعقدة، وحلّ المشكلة بطريقتها، القائمة على مزيج من تعبيرات غامضة عن «قيم المجموعة» ( community وليس society، مع الفرق الكبير بين المفهومين بالإنكليزية) التي من غير الواضح كيف تم تحديدها وإقرارها؛ وخوارزميات تراقب كل المنشورات بناءً على كلمات ورموز وصور مفتاحية. أي ما يمكن اعتباره أحطّ أنوع الرقابة، إلا أنه في هذه الحالة ليس من فعل رقباء أفراد، يمكن نقدهم ومخاصمتهم والمطالبة بتغييرهم، بل رقابة مجرّدة وغير مشخصنة، فهي في النهاية نمط من «الذكاء الاصطناعي». إلا أن هذه الرقابة «الاصطناعية» لا تعمل فقط على مواجهة «خطاب الكراهية» و«الأخبار الكاذبة» بل تساهم في تحوّل ثقافي شامل، نتيجة دعم منشورات تتضمن أساليب تعبير معيّنة، وحجب أو تهميش منشورات أخرى. والأمر لا يتعلّق بقمع أو نصرة اتجاه أيديولوجي محدد، بل أقرب لفرض قالب موحّد لأساليب التفكير والتعبير، وزوايا النظر المقبولة. كيف يؤثّر هذا فعلاً في ثقافتنا المعاصرة؟ أو كيف تصوغ الخوارزميات تعبيرنا، وربما فهمنا لأنفسنا والعالم؟ ..التغزّل بالخوارزمية بات التعاطي مع خوارزميات المواقع الأهم، مثل «غوغل» و«فيسبوك» أحد الخبرات الضرورية للعاملين في المجال الثقافي، لدرجة أن هنالك علوماً كاملة، تتعلّق بإعادة صياغة المحتوى، بما يناسب الخوارزميات. يكتشف الكتّاب والصحافيون والمصمّمون، أنهم ليسوا مضطرين فقط لتجنّب تعبيرات وصيغ ورموز معينة في عملهم، بل أيضاً الابتعاد عن نقاش مواضيع كثيرة، أياً كانت راهنيتها، أو على الأقل معالجتها بصيغ «آمنة»؛ فيما يبدو صانعو الأعمال الدرامية والموسيقية شديدي الاهتمام بما يمكن تسميته «قابلية العمل للتقطيع» أي إمكانية اجتزاء مقاطع أو مشاهد منه، باستطاعتها لفت الانتباه، بما لا يخالف «قيم المجموعة» ما يجعل ترويجها ممكناً على مواقع التواصل. يبدو أن منتجي الثقافة باتوا يخاطبون الخوارزمية أكثر من المتلقين، أو بالأصح ينتجون لها وليس للبشر، فهي من يضمن «الترافيك» المطلوب لأعمالهم. يؤدي هذا تدريجياً إلى تغيير مفاهيم وعناصر أساسية في عملية الإنتاج الثقافي: الرقابة لم تعد سلطة فوقية، يؤدي التحايل عليها إلى ابتكار صيغ وتركيبات أسلوبية جديدة، بل شرطا أساسياً في «السوق» مغازلته ضرورية لتحقيق انتشار وربح أكبر؛ من جهة أخرى تفكّك مفهوم «التلقي» بعد أن باتت الزيارات والمشاهدات نتيجة ل«حملات» campaigns يقوم بها مختصون، وبالتالي فالمتلقي لم يعد طرفاً مستقلاً، يقوم ب«قراءة» وإعادة تأويل المنتج الثقافي، بل مجموعة بيانات يمكن «استهدافها» عبر خوارزميات معينة. وبعد عقود من انتشار مقولة «موت المؤلف» الذي فقد مركزية حضوره في تأويل النص أو العمل الثقافي، لحساب تعدد تأويلات المتلقين، يبدو أنه بات من الضروري اليوم الحديث عن «موت المتلقي». تظهر آثار كل ذلك بوضوح على العمل الصحافي: توجد مؤسسات إعلامية كبرى، تتمتّع بمصادقة مواقع التواصل ومحركات البحث الأكبر، ويمكن لها بالتالي استخدام الكلمات والصور المفتاحية، ب«موثوقية» تُبعد عنها الشبهات وتهميش الخوارزميات؛ فيما تتسابق المنصات الإعلامية الأصغر على تطهير «محتواها». هنا تبدو مواد صحافية معيّنة، مثل تغطية «التريند»؛ وقضايا «الفئات النوعية» (التي تم إدراج النساء والمثليين والأقليات ضمنها)؛ والتدوينات الذاتية، أكثر تماشياً مع التيّار. هذا يعني أن رقابة وسلطة، غير متعيّنتين بجهة، فرزتا تلقائياً بين الإعلام التقليدي المترسّخ، الذي يحمل رخصة نقل الخبر وطرح القضايا العامة، ومعالجتها وتحليلها؛ وبين «الإعلام الجديد» المُصاغ على صورة الخوارزميات ومثالها. كما تنتج تلك السلطات غير المتعيّنة نمطاً جديداً من الكتّاب والمحررين والناشرين، ليس بسبب سياسات التمويل والدعم والمِنَح في هذه الحالة، وإنما من خلال تحديد غير مباشر للقوالب الكتابية والصحافية القابلة للانتشار. وبما أن كل نص صحافي، ضمن هذا الشرط، هو في النهاية «محتوى» قابل للترويج، إذا طابق شروطاً معيّنة، فلا معنى كبير لنقد مضمونه، أو حتى نقاشه بجديّة، ما يهمّ هنا تحقيق أرقام جيدة على مستوى «التفاعل» الذي لا تستثيره المضامين عادة، بقدر «المواصفات» التي يتسم بها «المحتوى». ..«كوميونتي» التجارب الذاتية تتمتع مفردة community بأهمية كبيرة في أيامنا، إذ أنها تشير إلى جماعة تتشارك اهتماماً أو عادة أو تجربة أو هوية فرعية، وتبدو أقلّ تجريداً من مفهوم الsociety، الذي يعني مجتمعاً متنوّعاً ومختلفاً ومتفاعلاً ومتصارعاً، ضمن شروط سياسية واقتصادية وتواصلية معقّدة. قضايا «السوسايتي» ستصطدم بالتأكيد بحساسيات «كوميونتي» ما. ولذلك فمن الأجدى تجنّبها في الإنتاج الثقافي الموجّه للخوارزميات.. إلا أن المسألة لا تقتصر على تجنّب ما هو شائك، أو حتى زيادة الخطوط الحمر، فالخوارزميات ليست مبرمجة على المنع فقط، وإنما أساساً على تكثير «جماعات الكوميونتي» إن صح التعبير، عبر صنع فقاعات مناسبة ل«المستخدمين» من خلال ما تحصّله من بياناتهم. سبق لرئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت ثاتشر القول: «لا يوجد مجتمع، وإنما نساء ورجال فقط» ويبدو أن الخوارزميات تقول لنا اليوم: «لا يوجد مجتمع، وإنما كثيرٌ من «الكوميونتي» فقط». يمكن اعتبار «التجربة الذاتية» الأسلوب الأفضل للتواصل في «الكوميونتي» إذ أن الجماعة المغلقة على ذاتها، والمعزولة عن «عدوان» الآخر، سواء كان كبيراً أو مصغّراً، لا تحتمل كثيراً من النقاش والجدل والاختلاف، وإنما تنشد التعاطف والدعم، وطبعاً التمكين في أحسن الحالات. وبذلك صار من الصعب اليوم فصل النصوص والمواد الصحافية الفعلية عن مخرجات ورشات وسياسات «التمكين». يوجد بالتأكيد «كوميونتي» كبير من مشاركي «التجربة الذاتية» ويبدو أن هذا ليس بسبب أزمة الصحافة نفسها، بل لانحدار كل ما هو اجتماعي. ..التنازل عن «الترافيك» لا تنبع مشكلة الكتابة الصحافية الحالية إذن من سياسات وممارسات خاطئة لأفراد، أو حتى مجموعات و«منظمات» بل هي نتيجة الشرط البنيوي للإنتاج الثقافي المعاصر، الذي تصعب القطيعة معه، ويمكن اعتباره مؤسِّساً لنمط جديد من التيار الرئيسي (مينستريم) يختلف عمّا سبقه بأنه لا يعتمد على جمهور ينشط ويتواصل في مجتمع، بل على بيانات مستخدمين، يبدون متمتعين بالفردانية والخصوصية والتنوّع، إلا أنهم «جماعيون» جداً، من ناحية كونهم بيانات قابلة للاستهداف والتصنيف والتكثير. إنهم «المتن» اللااجتماعي الجديد، الذي تستهدفه الهيمنة الأيديولوجية للمنظومات القائمة. يمكن لمنتجي الثقافة في هذا الشرط أن يلجأوا للحلول التقليدية: العمل بقواعد «المينستريم» مع محاولة تطعيمه بعناصر مقاومة للهيمنة؛ أو عدم الخضوع لتلك القواعد، أي التنازل عن «الترافيك» لحساب نمط جديد من «الثقافة المضادة»؛ وربما محاولة إنتاج حلول وتركيبات وسيطة بين الخيارين السابقين. سبق للتيارات الثقافية، التي وصفت نفسها بالمضادة، إنتاج قيم فكرية وجمالية لم يمكن تجاهلها، ففرضت نفسها بذلك على «التيار الرئيسي» الذي اضطر لتطعيم نفسه بعناصر منها، كي يبقى قادراً على الاستمرار. قد يكون هذا صعباً في الشرط الاجتماعي والثقافي الحالي، لكن ربما لا بأس من المحاولة. القدس العربي