لم تعلم طائرات "تساحال" (الجيش الإسرائيلي) ودباباته وبارجاته، التي تنفرد بإنجاز أول إبادة جماعية وتطهير عرقي وحرق أطفال ونساء وشيوخ وتجويع المدنيين وتهجيرهم قسرا على الهواء مباشرة، أنها ستحيي القضية الفلسطينية وتعطيها بعداً جديداً، ليتحوّل بذلك كفاح الشعب الفلسطيني إلى قضية كونية بامتياز. وتبرز كونية القضية الفلسطينية في خروج الملايين من المتظاهرين في مدن وعواصم عديدة، بما في ذلك في بلدان تؤيد حكوماتها إسرائيل، متخطين بذلك كل التهديدات وأنواع الحظر المفروضة على المتظاهرين، للتعبير عن مواقفهم بشأن الجاري في غزّة. ولقد أحدثت المسيرات العالمية المندّدة بمجازر "تساحال" تحولات عميقة في مواقف شعوب العالم تجاه ما يجري في فلسطين، وخصوصا تصاعد تأييد شعوب العالم شرعية كفاح الشعب الفلسطيني، واستنكارها الانتهاكات الإسرائيلية وجيش إسرائيل ومن يدعمها، فحسب مراكز بحث إسرائيلية، تتابع توجّهات الاحتجاجات العالمية، فإن حوالي 69% من المتظاهرين كانوا يؤيدون الفلسطينيين في ما بين 7 و13 أكتوبر مقابل 31% من المؤيدين لإسرائيل، ثم ارتفع عدد المؤيدين كفاح الشعب الفلسطيني، ليصل إلى 95%. وفي المقابل، عرف تأييد إسرائيل تراجعاً متسارعاً وصل إلي 5%. ولا يقتصر هذا التحوّل على مواقف الشعوب، بل شمل كذلك ارتفاع أعداد المواقف الحكومية والرسمية الداعمة حقّ الفلسطينيين والمستنكرة وحشية الجيش تجاه المدنيين في غزّة. لماذا أصبحت القضية الفلسطينية كونية بامتياز أكثر مما مضى؟ وماذا يفسّر تحوّلات الرأي العالم العالمي، بل وحتى الحكومات تجاه القضية الفلسطينية؟ محرقة جيش الاحتلال في قطاع غزّة، وضحاياها بالدرجة الأولى الأطفال والنساء، ناهيك عن الدمار الواسع للبنى التحتية من مستشفيات ومدارس ومنازل ودور عبادة… أحيت تفاعل الشعوب مع القضايا العادلة، وفي مقدمها القضية الفلسطينية. تفاعل جاء ليؤكّد أن القضايا الكونية لا تقتصر على قضايا الإرهاب والبيئة والتجارة والتسلح والمخدّرات كما يدعي بعضهم، بل إن القضايا الكونية تشمل أيضاً نصرة القضايا العادلة وقضايا التحرّر ودعم استرداد الشعوب حقوقها الشرعية الأساسية، ولا سيّما استرجاع حريتها وسيادتها وكرامتها. حرّكت بشاعة ما يحصل في غزّة من جرّاء القصف المتواصل للمدنيين ضمائر شعوب العالم تلقائيا، معلنة بذلك رفضها الامتثال لمواقف حكوماتها وتجاوز "عولمة اللامبالاة". وتترجم المسيرات العالمية المناهضة للعدوان على غزّة عن استجابة المتظاهرين في مختلف البلدان لصرخات الأطفال والأمهات والشيوخ وأنين من هم تحت الأنقاض، عن موقف عالمي يقضي على اللامبالاة ويطمئن الفلسطينيين بتجاوب أحرار العالم مع نداءاتهم وقضيتهم العادلة. تجاوب يعبّر في ذاته عن موقف أخلاقي، سرعان ما تحوّل إلى موقف سياسي رافض سياسة إسرائيل ومن يدعمها، ولا سيما الإدارة الأميركية وبعض الدول الأوروبية. عبّر حجم المظاهرات في العالم عن الرفض المطلق لملامح الاستبداد الاستعماري، الذي يعيد قصص الماضي الذي أصبح حاضرا في غزّة. لهذا، يبرز الواقع الفلسطيني فشل الإنسانية في التخلص من أسوأ مراحلها التاريخية، وخصوصا الحقيقة الاستعمارية وما يرتبط بها من انتهاك المستعمر القيم الإنسانية من خلال ضرب جيش إسرائيل وقادتها عرض الحائط بكل قرارات مجلس الأمن والمواثيق الدولية. ويعدّ هذا الخرق سلوكا طبيعيا في ممارسات إسرائيل التي لم تحترم، منذ تأسيسها، أيا من قرارات مجلس الأمن المتعلقة بفلسطين، بل إنها لا تحترم شروط انضمامها إلى الأممالمتحدة والمتمثلة في المصادقة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقيات جنيف، لتمثل بذلك إسرائيل دولة مارقة. لم يتوقف استعلاء إسرائيل عند هذا الحد، بل توسع ليشمل كذلك التطاول على الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، حينما دعاه السفير الإسرائيلي لدى الأممالمتحدة جلعاد إردان إلى الاستقالة الفورًية، لأنه "ليس مناسبا لقيادة الأممالمتحدة"، فإسرائيل التي يعتبرها الغرب الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط لا تعترف بأساسيات العمل الأممي، ويجعلها هذا السلوك تستبيح الدم الفلسطيني والعربي منذ تأسيسها من دون أي مساءلة. ما يجري في فلسطين يطرح على الضمير الإنساني جملة من الأسئلة الأخلاقية الأساسية، ولا سيما التي تستند إلى أن وجود إسرائيل لا يجب أن يرتبط بنفي حقوق الفلسطينيين وتهجيرهم والقضاء عليهم، وقد دعا إلى ذلك صراحة سياسيون ووزراء في حكومة اليمين المتطرّف. وقد أثبتت، مجدّدا، مشاهد العدوان على غزّة مواصلة خرق إسرائيل مختلف الحقوق المكفولة للفلسطينيين، كالعدالة والحرية والحق في التعليم والصحة والحقّ في العيش الكريم والحقّ في التنقل والحقّ في التملك… أي الحقّ في العيش الكريم والحقّ في إقامة دولتهم المستقلة. ليكتشف العالم، من خلال بشاعة العدوان على غزّة مدى عدوانية إسرائيل تجاه الفلسطينيين، الوضع الذي يعيد إنتاج مظاهر الحالة الاستعمارية نفسها. لذا، يطرح العدوان على غزّة السؤال عن الحالة الاستعمارية والحقيقة الاستعمارية في القرن 21، والذي يفرض على الفلسطينيين نظام تمييز متكامل يرفض الهوية الفلسطينية والفلسطينيين في أرضهم وأرض أجدادهم. ظلم قوات الاحتلال واستبدادها ووحشيتها لا تخص سكان غزّة فحسب، بل إنها تشمل أيضاً مختلف مكونات المجتمع الفلسطيني، كفلسطينييالضفة الغربية، وفلسطينييالقدسوفلسطينيي 1948. فإذا كان سكّان غزّة يعيشون منذ ولادتهم في سجن، وتحت وطأة الاجتياحات المستمرّة لجيش الاحتلال، فإن سكّان الضفة الغربية معرضون كذلك في أي وقت للطرد التعسّفي من بيوتهم ومصادرة جيش الاحتلال والمستوطنين ممتلكاتهم، أما فلسطينيوالقدس فإنهم معرّضون للطرد كذلك من بيوتهم، ولا يتمتعون بحقوقهم السياسية. أما فلسطينيو إسرائيل، فإنهم مواطنون من الدرجة الثانية. لتتعدّد بذلك ملامح معاناة مختلف مكونات المجتمع الفلسطيني، معاناة تؤكّد سلب الاحتلال الحقوق الأساسية والطبيعية للفلسطينيين، ليحرم الفلسطينيون، سواء في غزّة أو في الضفة الغربية أو القدس، من حقوقهم الأساسية والواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
لهذا، يمكن القول إن حياة الفلسطينيين، أينما وجدوا، تجمع بين مختلف أنواع الظلم والتجاوزات التي تنتجها الحالة الاستعمارية. وهذه الممارسات التي لا تمتّ ألبتة للممارسات الديموقراطية والكفيلة وحدها بدحر مزاعم حماة إسرائيل، والمتمثلة في أن الدولة العبرية تمثل نموذجا منفردا للديمقراطية في الشرق الأوسط. اليوم وبعد مرور شهرين على العدوان في غزة، ستسجل الذاكرة الإنسانية نجاح جيش تساحال في قتل وحرق الآلاف من الأطفال والنساء وتدمير المستشفيات والمرافق الاجتماعية. وفي المقابل، سيسجّل التاريخ بداية عهد جديد في كفاح الشعب الفلسطيني، من خلال تحوّل القضية الفلسطينية قضية كونية، فمن راهن على تصفية القضية فشلت رهاناته، لأن فلسطين صخرة ولا يمكن التخلص منها بسهولة، رغم تكالب القريب والبعيد، وتحالف جيوش العالم. لهذا، يوحي ما يجري في غزّة بميلاد عهد جديد في نضال الشعب الفلسطيني. النضال الذي يطرح أحقّية الفلسطينيين في بناء دولتهم المستقلة، وبأن إسرائيل دولة احتلال. هذا المحتلّ الذي يطرح وجوده أسئلة أخلاقية على الضمير الإنساني. يفرض مستقبل فلسطين جملة من التحوّلات، خصوصا المرتبطة بمراجعة أداور الفاعلين، لكي لا يبقى الراعي الرئيسي دوما حاميا للمعتدي. يضاف إلى ذلك ضرورة التفكير في آلية الاستثمار في الدعم الشعبي العالمي لكفاح الشعب الفلسطيني، ناهيك عن العمل مع المؤسّسات الحقوقية والأممية والمجتمعية، في اعتماد آليات جديدة تدعم حقّ الشعوب في الوجود والأمن ومعاقبة المعتدين وإصلاح الأضرار الناجمة عن انتهاكات المحتلّ المتكرّرة. العربي الجديد