رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    وزير الصحة يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة:عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    غزة: مجزرة بيت لاهيا إمعان في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني ونتيجة للفيتو الأمريكي    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    أيام إعلامية حول الإثراء غير المشروع لدى الموظف العمومي والتصريح بالممتلكات وتقييم مخاطر الفساد    توقرت: 15 عارضا في معرض التمور بتماسين    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    عميد جامع الجزائر يستقبل رئيس جامعة شمال القوقاز الروسية    منظمة التعاون الإسلامي: "الفيتو" الأمريكي يشكل تحديا لإرادة المجتمع الدولي وإمعانا في حماية الاحتلال    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    فلسطين: غزة أصبحت "مقبرة" للأطفال    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    يد بيد لبناء مستقبل أفضل لإفريقيا    التزام عميق للجزائر بالمواثيق الدولية للتكفّل بحقوق الطفل    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    بحث المسائل المرتبطة بالعلاقات بين البلدين    حج 2025 : رئيس الجمهورية يقرر تخصيص حصة إضافية ب2000 دفتر حج للأشخاص المسنين    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    الجزائرية للطرق السيّارة تعلن عن أشغال صيانة    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يثمن الالتزام العميق للجزائر بالمواثيق الدولية التي تكفل حقوق الطفل    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    الجزائر تشارك في اجتماع دعم الشعب الصحراوي بالبرتغال    مجلس الأمن يخفق في التصويت على مشروع قرار وقف إطلاق النار ..الجزائر ستواصل في المطالبة بوقف فوري للحرب على غزة    تكوين المحامين المتربصين في الدفع بعدم الدستورية    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    رئيس الجمهورية يشرف على مراسم أداء المديرة التنفيذية الجديدة للأمانة القارية للآلية الإفريقية اليمين    سعيدة..انطلاق تهيئة وإعادة تأهيل العيادة المتعددة الخدمات بسيدي أحمد    أمن دائرة بابار توقيف 03 أشخاص تورطوا في سرقة    ارتفاع عدد الضايا إلى 43.972 شهيدا    فايد يرافع من أجل معطيات دقيقة وشفافة    حقائب وزارية إضافية.. وكفاءات جديدة    القضية الفلسطينية هي القضية الأم في العالم العربي والإسلامي    تفكيك شبكة إجرامية تنشط عبر عدد من الولايات    انطلاق فعاليات الأسبوع العالمي للمقاولاتية بولايات الوسط    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تزكية النفوس من مقاصد الصوم
نشر في الحياة العربية يوم 25 - 03 - 2024

تزكية النفوس ثمرة العبادات وخلاصة نتائجها، فليست العبادات في هذه الظواهر من ركوع أو سجود، أو مجرد تلفظ بألفاظ، أو إرهاق النفس بالصوم، أو إجهاد البدن في الحج، وإنما هو ما وراء ذلك كله، مما ينسكب في القلب ويملأ النفس من الروحانية والإيمان، والتي تجعل نفس الإنسان في مراتب عليا من الطهارة والنقاء والصفاء.
وتزكية النفوس هي غاية هذه العبادات، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ [التوبة:103]، إنما هو محض التطهير والتزكية، وكما قال جل وعلا: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ [الحج:37]، فكل عمل خلاصته وثمرته هي هذه النفس وتزكيتها.
لقد تظافرت نصوص الكتاب والسنة ببيان أهمية تزكية النفوس وما لها من مكانة عالية ومنزلة رفيعة، ولعل من أبرز تلك النصوص وأظهرها قوله تعالى في سورة الشمس: ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 1 10].
قال تعالى لموسى في خطابه لفرعون: ﴿ فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى ﴾[النازعات:18].
وقال سبحانه عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة ﴾ [الجمعة: 2].
قال ابن القيم: «فإن تزكية النفوس مُسلَّم إلى الرسل، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاَّهم إياها، وجعلها على أيديهم دعوة وتعليما وبيانا وإرشادا… فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم… وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد، فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة، التي لم يجئ بها الرسل فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب؟ فالرسل أطباء القلوب فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم، وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد والتسليم لهم، والله المستعان» اه «مدارج السالكين» (2/356).
ولذلك قال إبراهيم الخليل عليه السلام كما في دعائه الذي ذكره القرآن: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ [البقرة:129] وتقديم التزكية أو تأخيرها له علة تدل على أهميتها، فتقديمها: لأن الإخلاص وتزكية النفس والقلب يؤهل لنيل المعرفة والعلم.
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته
أتعبت نفسك فيما فيه خسران
أقبل على النفس فاستكمل فضائلها
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
ولذلك كان من مقاصد الصوم تزكية النفوس وتهذيبها وتنقية لها من الأخلاق الرذيلة، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة:183]؛ خاصَّة أنَّه شرع في شهر من خصوصيَّاته تصفيد الشياطين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال:(إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنَّة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين) (البخاري ومسلم).
ولهذا يضيِّق الصوم مجاري الشيطان في بدن الإنسان، وكما هو معلوم فإنَّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، إلاَّ أنَّه بالصيام يضعف نفوذه، فإذا أكل المرء أو شرب انبسطت نفسه للشهوات، وضعفت إرادتها، وقلَّت رغبتها في العبادات.
يقول ابن القيِّم رحمه الله :(وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحَّتها؛ فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات) (زاد المعاد2/29).
ويقول الإمام الكمال بن الهمام أحد فقهاء الحنفية في فوائد الصوم:( أنَّ الصوم يسكن النفس الأمَّارة بالسوء ويكسر سورتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج؛ ولذلك قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء، وإذا شبعت جاعت كلُّها) ا. ه من فتح القدير.
نَّ للصوم تأثيرًا كبيرًا في دفع الشهوات وكسر حدَّتها، ولهذا يقول المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم :(الصوم جُنَّة) أخرجه البخاري (4/87،94) ومسلم:(1151) ومعنى جُنَّة: أي درعٌ واقية من الإثم في الدنيا، ومن النار في الآخرة، وفي الحديث الآخر:(الصيام جنة من النار كجنَّة أحدكم من القتال) (صحَّحه الألباني في صحيح الجامع (3879)، وفي الحديث الآخر:(الصيام جنَّة، وهو حصن من حصون المؤمن) صحيح الجامع: (3881).
ويعجبني ما قاله الشيخ الدكتور: مصطفى السباعي رحمه الله حين ذكر حديث:(الصوم جنَّة) ثم عقَّب قائلًا: فقد قدَّم الحكمة من الصيام ثمَّ بيَّن آدابه، ليكون أوقع في النفس وأعمق أثرًا، وليكون المؤمن أكثر اطمئنانًا إلى العبادة حين يؤدِّيها، وإلى التشريع حين ينفذه) (أحكام الصيام وفلسفته: للسباعي/ ص 53).
وإذا كبَح الصوم المعاصي نال العبد منزلة راقية في العبودية لله؛ لأنَّ الصوم الذي يراد به مجرد الإمساك عن الطعام والشراب يستطيعه كثير من الناس، بيدَ أنَّه سبحانه أراد من عباده أن يكون صومهم منقيًا لهم من المعاصي وما دار في فلكها، وقد ذكر الإمام ابن حجر العسقلاني أنَّ العلماء:(اتفقوا أنَّ المراد بالصيام صيام من سلم صيامه من المعاصي قولًا وفعلًا).
والحقيقة أنَّ الناس انقسموا في الصيام إلى عدَّة أقسام: فمنهم من يكون صيامه الإمساك عن الأكل والشرب فقط، إلاَّ أنَّه مرتكب للفواحش مطلق بصرَه لما حرَّم الله من النظر إلى النساء اللاَّتي لا يحللن له، وبعضهم قد أرخى لأذنه لكي تستمع للأغاني المحرمة، ولا يخفى على ذي لبٍّ ما فيها من الفسق والكلام الفاحش، وبعضهم أطلق لفمه العنان فينطق بالكلام الساقط، والعبارات الرذيلة، والغيبة والنميمة والكذب؛ فهل هذا صيام من أراد جنَّة الرضوان؟
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلَّم حين قال:(رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظُّه من قيامه السهر والتعب) صحيح الترغيب (1070).
عباد الله: إنَه ينبغي على المرء أن يكون بكليَّته صائمًا عمَّا حرَّم الله في شهر رمضان وفي غيره من الشهور؛ فإنَّ رمضان هو المحطة السنوية للغسيل الروحي، وليس يعني ذلك أنَّ المسلم إذا صام عن المحرمات في رمضان، أنَّه يجوز له أن يقترف ما حرَّم الله من المعاصي والموبقات في غير هذا الشهر؛ فليكن رمضان زادًا إيمانيًا لكل الشهور القادمة من بعده، ودورة تربوية يزداد فيها رصيد العمل الصالح، ويكثر فيه محاسبة النفس ومنعها من الحرام، وقد قال الله ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات:40-41].
فليدرك الإنسان نفسه، وليجدد توبته لربه وليبتعد عن منكرات الأخلاق والأقوال والأعمال؛ فإنَّ رسول الهدى عليه الصلاة والسلام يقول:(من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) أخرجه البخاري. ويقول:(فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل؛ فإن سابَّه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم) (البخاري ومسلم).
وقد ذكر الإمام ابن رجب رحمه الله أنَّ بعض السلف قال:(أهون الصيام ترك الشراب والطعام، وقال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء!!) لطائف المعارف(ص/292).
أهل الخصوص من الصوام صومهم
صون اللسان عن البهتان والكذب
والعارفون وأهل الأنس صومهم
صون القلوب عن الأغيار والحجب
عباد الله: والصوم وشهر رمضان بهما تزكو النفوس وتهدي للحق، وقد قرن الله تعالى شهر الصيام بالقرآن فقال: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة:183]، فشهر رمضان اختاره الله لينزل ما به يهتدي الناس كل الناس، فهو محطة هداية وطلب الهداية، إنه الشهر الذي يقبل فيه عباد الرحمن على عبادته.
وفي ذلك كله تزكية للنفوس والارتقاء بها في مدارج الكمال وتزويدها بما يعينها طوال العام وفي رحلتها إلى الدار الآخرة، وإننا بحاجة إلى تزكية نفوسنا خاصة ونحن في زمن كثرت فيه الشبهات والشهوات وظهرت الكثير من الفتن وتنصلت كثير من النفوس من القيم والأخلاق، واستطال المسلم في عرض أخيه ودمه وماله، وتوغل الشيطان بمكائده وخططه وطرق اغوائه، وتربص الأعداء في كل طرق المسلمين وفي كثير من جوانب حياتهم، فكان لابد من تزكية النفوس واستغلال هذا الشهر الكريم، وإن المحروم من خرج شهر رمضان ولم يستفد منه في شيء، فاغفر اللهم الذنوب واستر العيوب وتجاوز عن السيئات.. قلت قولي هَذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
إن التزكية سبب لدخول الجنة وستار ووقاية من النار، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ﴾ [طه:75-76]، ويقول سبحانه وتعالى في الوقاية من النار: ﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ﴾ [الليل:17-18].
ولذلك كان الصالحون يستثمرون الأوقات والطاعات لتزكية نفوسهم وتربيتها وتهذيبها، كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان يجلس بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، فسُئل عن ذلك لا يتركها أبدًا؟ فقال: هذه غَدْوتي لو تركتها لخارت قواي.
لما حضرت أبا بكر بن عياش الوفاة بكت أخته، فقال لها: ما يبكيك؟، انظري إلى تلك الزاوية، فقد ختم أخوك فيها ثمانية عشر ألف ختمة ".
وذكر علماء التراجم في سيرة الجنيد بن محمد، أنه حين أتته سكرات الموت، أخذ يقرأ القرآن، فأتى الناس – قرابته وجيرانه- يحدّثونه وهو في مرض الموت، فسكت وما حدثهم، واستمر في قراءته، فقال له ابنه: " يا أبتاه! أفي هذه الساعة تقرأ القرآن؟! ". فقال: " ومن أحوج الناس مني بالعمل الصالح؟، فأخذ يقرأ ويقرأ حتى قُبضت روحه.
وهذا شعبة بن الحجاج جبلٌ في حفظ السنة ما ركع قط إلا ظن الناظر إليه أنه نسي من طول الركوع، ولا قعد بين السجدتين إلا ظن الناظر إليه أنه نسي، ويقول بعض من رأى قيامه: كان يقوم يصلي حتى تتورم أقدامه.
وهذا سفيان الثوري يقول بعض من شاهده أمام الكعبة يصلي: رأيته ساجدًا فطفت سبعة أسابيع قبل أن يرفع رأسه، طاف سبعة أسابيع أي أنه طاف سبعة أطواف في كل طواف سبعة أشواط ولا زال سفيان الثوري على حاله في السجود!
ولما قدم إلى اليمن قدم على عبد الرزاق الصنعاني، يقول عبد الرزاق: فأتيته بسَكْباج -وهو اللحم الذي طهي بالخل- وبزبيب من زبيب الطائف فأكل ثم قال: يا عبد الرزاق، أعْلِف الحمار وكُدَّه، ثم قام يصلي حتى الصباح!
ولذلك وجب على كل مسلم أن يسعى لتزكية نفسه وتربيتها وتهذيبها حتى تقوده إلى جنة ربه ورضوانه، وعلى المسلم أن يقف مع نفسه بين فترة وأخرى وهذا من التزكية، فكيف برمضان شهر الصيام والقيام والنفحات الربانية، كان الأحنف بن قيس جالسًا يوما فجال بخاطره قوله تعالي: ﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10] فقال: عليّ بالمصحف لألتمس ذكري حتى اعلم من أنا وما هي أعمالي؟ فمر بقوم قال تعالى فيهم: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ [الذاريات/17-19]. ومر بقوم قال تعالى فيهم: ﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134] ومر بقوم وهو يقرأ في كتاب الله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9]. فقال تواضعاُ منه: اللهم لست أعرف نفسي في هؤلاء ثم أخذ يقرأ فمر بقوم قال تعالى فيهم ﴿ إذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الصافات: 35]. ومر بقوم: يقال لهم ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ﴾ [المدّثر 42-44] فقال: اللهم إني أبرأ إليك من هؤلاء حتى مر على قومٍ قال الله فيهم: ﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [التوبة: 102]. فقال: اللهم أني من هؤلاء..
معاشر المؤمنين: وليس من نافلة القول – هاهنا – أن نقول أيضًا: إن للدعاء أثر عظيم في تزكية النفوس؛ وإن لرمضان خصوصية بالدعاء؛ وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا "؛ (رواه مسلم).
فالتمس – رعاك الله – في رمضان تزكية نفسك، واستعن عليها بخالقها، فأكثر من الدعاء مع الاجتهاد في الطاعات، فهذا هو سبيل التزكية وطريق النجاة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.