الصيام أصل من أصول تزكية النفس وتقوية إرادتها وتحملها مقتضيات طاعة الله تعالى، وهو كما قال ابن القيم: «هو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئاً، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثاراً لمحبة الله ومرضاته، وهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه، والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمر لا يطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم» إنها مدرسة التقوى التي ذكرها الله في كتابه فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وإن العلم الصحيح بأحكام الصيام وفضيلة رمضان، وأجر العاملين، وجزاء الصائمين، يدفع بالصائم لطريق التزكية الصحيح والسلوك فيه بهمَّة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: كلُّ عمَلِ ابنِ آدمَ له إلا الصيامَ فهو لِي وأنا أجزِي بِهِ إنَّمَا يتْرُكُ طعامَهَ وشَرَابَهُ مِن أجْلِي فصيامُهُ لَه وأنا أجزِي بِه كلُّ حسنةٍ بعشرِ أمثالِهَا إلى سبعمائِةِ ضعفٍ إلا الصيامَ فهو لِي وأنا أجزِي بِهِ» (رواه أحمد)، وقوله: «إنَّ في الجنَّةِ بابًا يُقالُ له: الرَّيَّانُ، يَدخُلُ مِنه الصَّائمونَ يومَ القيامَةِ، لا يَدخُلُ مِنه أَحدٌ غيرُهُم، يُقالُ: أينَ الصَّائمونَ؟ فيَقومونَ لا يَدخُلُ مِنه أَحدٌ غيرُهُم، فإذا دَخَلوا أُغلِقَ، فلن يَدخُلَ مِنه أَحدٌ» وإن إحساس الصائم بالجوع ويقينه بحاجته للطعام والشراب ليشعره بالضعف والذل والانكسار بين يدي ربه الذي يطعمه ويسقيه، فيزداد إيماناً به ويقيناً برحمته وحباً له، وإذا تأدب الصائم بآداب الصيام فقد دخل في حصن حصين، فزكت نفسه وسمت روحه وحلق في آفاق رحبة من السكينة والقرب، وقد بيَّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «الصيامُ جُنَّةٌ، وهو حِصْنٌ مِنْ حصونِ المؤمِنِ» (صحيح الجامع). وحذر من أن يكون صيامنا صياماً شكلياً خالياً من معانيه وأغراضه، فقال صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (رواه البخاري)، وقال: «ورُبَّ صائِمٍ حَظُّهُ مِنَ الصِّيامِ الجوعُ والعَطَشُ» بل حث على أن يكون لأخلاقنا نصيب من الترقي في شهر رمضان فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أصبَحَ أحدُكُم يوماً صائماً، فلا يرفُثْ ولا يجهَلْ، فإنِ امرؤٌ شاتمَهُ أو قاتلَهُ، فليقُلْ: إنِّي صائمٌ، إنِّي صائمٌ» وقد فهم الصحابة ذلك فيقول جابر بن عبدالله رضي الله عنه: «إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك وصومك سواء إن صيام جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في نهار رمضان، وتلاصق الأكتاف بالأكتاف من جموع المصلين في قيام رمضان؛ لهو تربية على روح الوحدة والأخوّة والاجتماع على طاعة الله عز وجل، وإن إحساس الصائم بالجوع ليزيد من اللحمة الأخوية بينه وبين الجائعين في شتى بقاع الأرض، وإن التفاف الأسرة حول مائدة الإفطار في رمضان يجدد أواصر الألفة بين أفرادها ويزيد من تآلفها، بل إن إهداء الجار طبقاً من طعام الفطور لجاره أو تفطير بعض الصائمين لَيقوي من العلاقات بين أفراد المجتمع بما يعود عليه بالقوة والترابط، أفلا تزكو النفس وتشف بمثل هذه العبادات في رمضان؟! من وسائل التزكية في رمضان: - اتباع سُنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في الصيام: فقد حث على السحور لنتقوى على العبادة، وقال: «تسحَّروا، فإن في السَّحورِ بركة» ودعانا لتعجيل الفطر فقال: «لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما عجَّلوا الفطرَ» ودلنا على ما ينفعنا فقال: «إذا أفطَرَ أحَدُكم، فليُفطِرْ علَى تَمرٍ فإنَّهُ بَرَكَةٌ، فإنْ لم يَجِد تَمراً، فالماءُ فإنَّهُ طَهورٌ» وكان يكثر في رمضان من أنواع العبادات كالصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والصلاة والذكر والاعتكاف، وكل ذلك له أكبر الأثر في تزكية نفوسنا لو اتبعناه. - قيام ليالي رمضان واغتنام العشر الأواخر: فإن إحياء هذه الليالي بالصلاة والقرآن والدعاء والاعتكاف إنما هو إحياء للقلوب، حيث يهجر القائم نومه ويقف في جموع المصلين داعياً راجياً، خائفاً وجلاً، أليس هذا من عوامل التزكية الماحية للذنوب الساترة للعيوب، الموجبة للمغفرة بفضل الله عز وجل؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: «من قامَ رمضانَ إيماناً واحتساباً غُفر لهُ ما تقدَّم من ذنبهِ» أما العشر ففيها ليلة العمر التي قال الله عنها: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ وقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حُرِمَها فَقَدْ حُرِمَ الخيرَ كُلَّهُ، ولَا يُحْرَمُ خيرَها إلَّا محرومٌ» - تلاوة القرآن الكريم: فرمضان شهر القرآن، وبتلاوته تطمئن القلوب، وبتدبره وفهم معانيه يزيد الإيمان ويتحقق اليقين، وبصحبته والعمل به تزكو النفوس، وصحبة القرآن آكد وأشد في رمضان حيث تنزل فيه على الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) ، «وكان جبريلُ يلقاه في كلِّ ليلةٍ منه فيدارِسُه القرآنَ» كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما. فهذه الصلة القوية والدائمة بكتاب الله تزكي النفس في الدنيا وتسعدها في الآخرة، كما في الحديث: «الصِّيامُ والقرآنُ يشفَعانِ للعبدِ يومَ القيامةِ، يقولُ الصِّيامُ: أي ربِّ منعتُهُ الطَّعامَ والشَّهواتِ بالنَّهارِ فشفِّعني فيهِ، ويقولُ القرآنُ: منعتُهُ النَّومَ باللَّيلِ فشفِّعني فيهِ قالَ فَيشفَّعانِ» فاللهم إنا نسألك يا غفور يا رحمن يا رحيم أن تفتح لأدعيتنا أبواب الإجابة، يا من إذا سأله المضطر أجاب، يا من يقول للشيء كن فيكون). (اللهم لا تردنا خائبين، وآتنا أفضل ما يؤتى عبادك الصالحين، اللهم ولا تصرفنا عن بحر جودك خاسرين، ولا ضالين ولا مضلين، واغفر لنا إلى يوم الدين، برحمتك يا أرحم الرحمين