الإطاحة الشبابية الشعبية بالشيخة حسينة واجد في بنغلاديش من طائفة الأحداث التي تختزل على الفور في مشهد جموع ساخطة تجبر حاكماً متسلّطاً على الفرار. بالمطلق، ليس في التعطّش إلى مشهد الجموع «وقد عزمت وحصدت» ما يُلام عليه المرء. إنما المشكلة، عند كل عتبة، أنه يجري ابتسار تجربة حافلة ومريرة ومتأرجحة في مشهد احتفاليّ مرغوب، إنما معدّ للتطاير كالزبد، بعد ساعات قليلة. فتُنسى بنغلاديش كما كان الحال مع سريلانكا قبل عامين ونيّف، ويصير هواة «توكيد» التوسّع الديمقراطيّ على الصعيد العالمي في حاجة إلى التقليب في مجسّم الكوكب بحثاً عن إطاحات شعبية بديعة جديدة. أو قد يقول قائل بأنّه ليس من المفترض لغير أهل البلد والمتابعين المختصين أن يهتموا إلا برصد ما إذا كان هذا البلد أو ذاك يقطع شوطاً في اتجاه تقدّم ما، أو يبدر أقلّه في هذا الاتجاه. إن لم يكن التقدّم على مستوى السياسة، بإقامة مؤسسات ديمقراطية وتشغيلها وصيانتها، فعلى مستوى معدلات النمو والمؤشرات الاقتصادية والمالية. إما التقدّم في واحد من المستويين، السياسي والاقتصادي، أو الرسوب أمام أحد الاستحقاقين أو حيالهما معاً. أما سوى ذلك فلا مجال للاعتبار منه والاستزادة. أن يُقرأ الحدث سريلانكياً كان أو بنغلادشياً من زاوية مآل «أمّة» وفكرة عن أمّة، فهذه أمور لا صبر عليها في معشر الذين أقنعوا أنفسهم بأن كوكبنا كهذا لم يعد يحتوي إلا على أفراد، لا حدود إثنية وقومية ودينية وحضارية بينهم إلا تلك الموهومة والمصطنعة. «الأمة» مقولة أساسية في المعجم السياسيّ للحداثة. توازي مقولة «الدولة». تجتمع معها في رابط «الدولة – الأمة» هنا، أو تبحث عن نفسها بالاشتباك مع هذا الرابط هناك. في حال بنغلاديش، «الأمة» كتطلّع، هي ثمرة نشاط ديمقراطيّ قاده الشيخ مجيب الرحمن، والد رئيسة الوزراء المخلوعة، وبالذات لحظة انطلاق حركة «النقاط الست» عام 1966، المطالبة بالحقوق الثقافية وبالاستقلالية الإدارية للباكستانيين الشرقيين، البنغاليين، والخروج مما قاسوه من تبعية لباكستان الغربية. واحدة من مسوغات هذه التبعية أن الباكستان اعتمدت الأوردو، وهي ليست لغة أي من الأقاليم التي تشكلت منها الدولة، لا في الغرب (البنجابيون والسنديون والباشتون يتكلم كل قوم منهم لغته) ولا في البنغال الشرقي غير المتصل جغرافياً، وإنما لغة «المهاجرين» من الأقاليم التي باتت جزءاً من الهند، وهم البناة الأساسيون للفكرة الباكستانية القائمة على استحضار دنيوي – قوموي لثنائية المؤاخاة بين «المهاجرين والأنصار». بيد أن مشكلة استبعاد غير المتحدثين بالأوردية عن الإدارة والتعليم العالي كانت وخيمة أكثر في البنغال الشرقي. ولد الشعور القومي البنغالي مجدداً من فتحة اللغة. المفارقة أنه في مطلع القرن العشرين سبق مسلمو البنغال سواهم من مسلمي جنوب آسيا إلى طلب تشطير البنغال نفسه على أساس الدين، لينتهوا نهاية الستينيات إلى المطالبة بالاستقلال الذاتي، ضمن دولة المسلمين، على أساس اللغة. كل هذا ولم تكن باكستان بجناحيها من انتخابات تعددية منذ استقلالها. حتى إذا اتيح هذا الاختبار عام 1970، وضمن السعي للخروج من ربقة العسكر، جاءت النتيجة صادمة، فبسبب من رجحان الكفة العددية في ذلك الوقت للبنغال الشرقي، اكتسحت «رابطة عوامي» بقيادة مجيب الرحمن مقاعد البرلمان الباكستاني الموحد، وهي تنادي بالاستقلال عنه. لم تكن بعد تجاهر بالاستقلال التام، لكن التعنت في مواجهة النتائج دفعها إلى ذلك. وبدل من أن يؤمن التشابه بين برنامج الرابطة الاقتصادي الاجتماعي التلاقي مع حزب الشعب بقيادة ذو الفقار علي بوتو في الشطر الغربي حدث الشقاق. تدحرجت الأمور. زاد شعور البنغاليين الشرقيين بأنهم مستعمَرون على يد الشطر الغربي، ومضوا إلى استهداف الأقلية «البيهارية» في إقليمهم، أي أبناء المهاجرين المسلمين من بيهار الهندية (وقد كانت تاريخياً جزءاً من البنغال في امتداده الأوسع) وهؤلاء أجبروا على النزوح بعد مجازر 1946 السابقة بعام على المجازر المتبادلة إبان انفصال البلدين (وقد اعتبر مؤسس باكستان محمد علي جناح ذات يوم أن المجازر بحق مسلمي بيهار هي التي قضت نهائياً على أي إمكانية للدولة الهندوسية – الإسلامية الموحدة). اعتبر أبناء اللاجئين من بيهار «طابوراً خامساً» لباكستان الغربية داخل البنغال الشرقي، يتمتعون بالامتيازات كونهم من الناطقين بالأوردية. قررت إسلام آباد التدخل بشكل عنيف بذريعة حماية البيهاريين المنكوبين، فوجدت نفسها سريعاً ترتكب مجازر إبادة ضد البنغالييين، ومع فرار الملايين منهم في اتجاه الهند تذرّعت الأخيرة بالأمر لتقصم ظهر باكستان وبوتو في حرب «استقلال بنغلاديش». عند الإطاحة بانتهاء بابنته حسينة، عمد المتظاهرون على تحطيم تمثال والدها، مؤسس بلادهم، مجيب الرحمن. بالنسبة لهؤلاء الساخطين هو أصل البلاء. قاوم الإبادة عام 1971، لكنه متهم بالتسبب بواحدة من أسوأ مجاعات القرن الماضي، عام 1974. جاء على رأس حيوية ديمقراطية لكنه سرّع الخطى في اتجاه نظام الحزب الواحد. اغتيل بعد المجاعة بقليل على يد العسكر. حلّ مكانه الجنرال ضياء الرحمن. اغتيل على يد ضباط آخرين عام 1981. بنتيجة الاغتيالين تصدّرت المشهد البنغلادشي مطولاً سيّدتان: حسينة، ابنة نجيب الرحمن، شهيد «رابطة عوامي» اليسارية الاتجاه، رغم تحدّر عبد الرحمن من طبقة «التعلقدار» (ترادف طبقة المقاطعجية والتيمارية والملتزمين للأرض في النطاق العثماني). وخالدة ضياء، أرملة ضياء الرحمن، على اليمين، وهي قادت «الحزب القومي البنغلادشي» الذي أسس له والدها. بشكل عام، رابطة «عوامي» (العامة) تميل إلى التركيز على دور جهاز الدولة الدواويني التحكمي بالاقتصاد، وعندها حساسية مزمنة في الوقت نفسه حيال «غدر» العسكر بها. أما «الحزب القومي» فعنده مربط خيل في العسكر، ومربط خيل أكبر لدى مالكي مصانع النسيج، وهو في علاقة تحالفية حيناً، وتخاصمية حيناً مع «الجماعة الإسلامية» وهذه لعب طلابها دوراً كبيراً في الإطاحة بالشيخة حسينة، وتنتمي «الجماعة» إلى الخط الرافض في الأساس لانفصال بنغلاديش. لم تتمكن السيدتان حسينة وخالدة من تأطير التنافس بينهما في نوع من اللعبة الديمقراطية. تبادلتا مطولاً تهم الفساد، والفساد في عالمنا يرشق به أيّ كان أيّ كان. فكيف الحال بالنسبة إلى واحدة من أكثر الدول طليعية على مستوى مؤشرات الفساد؟ زوّرت الشيخة حسينة انتخابات 2014 و2018، ووضعت غريمتها قيد الاحتجاز. اعتبرت أن المعركة لم تزل كما هي منذ 1971. بين خط الاستقلال الوطني وبين نفاته. بين التقدميين والرجعيين. فإما «عوامي» أو العسكر. وإما «عوامي» أو الإسلاميون. وإما «عوامي» أو القضاء على الحد الأدنى من المساعدات لعشرات ملايين الفقراء، بما يمكنهم من الذهاب للمصانع في اليوم التالي. وفي النهاية اندفعت «عوامي» لسن تشريعات من النوع الذي يحصر الوظائف الحكومية بين أبناء الذين ضحوا عام 1971 من أجل استقلال البلد. فقامت الانتفاضة على هذا المنطق التعسفي. الانقسام الثلاثي بين «عوامي» على اليسار، و«القومي» والإسلاميين، على اليمين، ليس من البسيط تجاوزه. كذلك، فإن عناصر الانقسام ضمن المؤسسة العسكرية لا تسهّل لها التحكم بمفاصل المرحلة الانتقالية. وهذا يفتح باباً للتجاذب الإقليمي. بشكل عام، الإطاحة بحسينة ليست في صالح الهند، إنما لصالح الصينوباكستان. إنما للهند نفوذها ضمن العسكر، كما ضمن رابطة «عوامي». المفارقة أن بلداً يتجاوز تعداد سكانه 170 مليون نسمة ينظر له في الوقت نفسه كبلد صغير في آسيا، ويحاول عبثاً، أن يتفلت من اشتداد التجاذب الهندي – الصيني عليه. وما يعني الهند بالمباشر هو الحؤول دون تدفق المزيد من المسلمين البنغلادشيين في اتجاه ولاياتها الشرقية. هذا في حين أن هندوس بنغلاديش يشكلون أقلية من 15 مليون نسمة. وضع هؤلاء لطالما كان مبرراً للهند للتدخل في شؤون جارتها الشرقية. أساساً، جزء من تسويغ الحرب على باكستان عام 1971 ارتبط بالاستهداف الدموي لهذه الأقلية. لكن الهند اليوم لا تلتزم بسياسة واحدة تجاه هندوس بنغلاديش: بخلاف مسلمي هذا البلد، فهي تفتح لهم باب الهجرة إليها. لكنها غير قادرة على الاستيعاب السريع لعدد كبير منهم فجأة. وهي غير راغبة في ترك نسبة الهندوس تنخفض بشكل كبير في بنغلاديش أيضاً، لأن ذلك سينعكس بالضرورة على انخفاض معدّل نفوذها. الأمة البنغلادشية لم تولد عام 1971 بشكل مصطنع، ولا من فوق إلى تحت. ولدت من رحم حركة مطالب، ثم انتخابات وانقلاب عليها، ثم حرب أهلية وجرائم إبادة وحرب تدخل، ثم تعثر في النظام السياسي، والتشارك الإداري مع الفيضانات في التسبب بمجاعة، ثم عسكر منقسم على نفسه، ومبارزة طويلة بين ابنة زعيم وأرملة آخر. ويبقى مع كل هذا أن ثمة بعدا طبقيا أساسيا للانتفاضة على شيخة «العمال والفلاحين» حسينة. فمجرد انتقال الغضب من دائرة الطلاب إلى دائرة عمال النسيج ومصانع الألبسة، أفهم العسكر الجميع، بمؤازرة أصحاب المعامل، بأن خطاً أحمر ينبغي عدم تجاوزه: الحفاظ على «الإنتاجية»! بالتوازي، لم يُفهم عملياً في تاريخ هذا البلد كيف يمكن لدستوره أن ينص على التوالي على علمانية الدولة، وعلى أن الإسلام دين الدولة! مع هذا، ورغم كل ما تعانيه الدولة من فشل وظيفي، والمجتمع من بؤس وانسداد أفق، فإن عملية تشكّل أمة بنغلادشية لا تزال مستمرة، وهي تمرّ اليوم في اختبار الهدم الشعبي لصنم مؤسسها.