الفارق بين الصراع العربي الإسرائيلي التاريخي وبين شكل الصراع الذي ولجت إليه منطقة الشرق الأوسط منذ هجمات السابع من أكتوبر 2023 وما تلاها من حرب إسرائيلية بمنحى إبادي متواصل على غزة، وما تمخّض عنها من نزاع في الشمال مع حزب الله، من أول حرب المشاغلة إلى راهن حرب الاستئصال، ومن مراسلات جوية حربية مع الحوثيين والحرس الثوري الإيراني والفصائل العراقية، هو أن الصراع العربي الإسرائيلي ما عرف الحروب في سجله الطويل إلا كزمن متقطّع، سواء ضمن الحرب الواحدة، بين هدنة وأيام حربية، أو ما بين حربين. في المقابل، الهدنة الوحيدة التي شهدناها منذ هجمات 7 أكتوبر كانت وقف إطلاق النار لبضعة أيام لإنفاذ صفقة جزئية لتبادل الأسرى في أواخر نوفمبر من العام الماضي، فيما بدا صدى للقرار 2712 الداعي للهدن الإنسانية، والممرات الآمنة، وإطلاق سراح المحتجزين. لم تعرف الحرب سواء على غزة، أو خارجها من وقف إطلاق نار منذ ذلك التاريخ، مثلما لم يعرف لما يعرف بالشرعية الدولية حياة إزاء هذا النزاع منذ القرار 2712 هذا. كثيرون يقارنون مصاب غزة اليوم بالنكبة الفلسطينية الكبرى. مع هذا، زمن النكبة كان زمن الحرب المتقطعة بامتياز. بعد أقل من شهر على إعلان قيام دولة الكيان الصهيوني، كانت الهدنة الأولى بينها وبين الدول العربية المشاركة في الحرب عليها. وقد دامت الهدنة عملياً من 11جوان إلى 8 جويلية 1948. تمكنت إسرائيل خلال هذا الشهر من استيراد السلاح الثقيل من تشيكوسلوفاكيا حديثة العهد بنظامها الشيوعي، وهي كانت من البلدان النادرة التي قبلت تسليح إسرائيل آنذاك. وإن كان الاتحاد السوفياتي يقف عملياً وراء إجازة هذا التسليح، وينظر إلى الدول العربية المهاجِمة على أنها تدور في الفلك البريطاني، فيما يمنّي النفس بأن تتحول إسرائيل إلى نصيرته ضد الإمبريالية في الشرق الأوسط. سمحت الهدنة الأولى لإسرائيل بالالتقاط الأنفاس من بعد تدفّق الجيوش العربية إلى فلسطين، وبتعويض النقص في الذخيرة والأعتدة، وبالاستفادة من ظروف الحظر الدولي لبيع الأسلحة لطرفي النزاع، بما أنّها كانت تمتلك بوابة تشيكوسلوفاكية لخرقه. كذلك سمحت الهدنة لديفيد بن غوريون واليسار الصهيوني بإنجاز عملية توحيد البندقية وتوجيه ضربة 22 جوان 1948 لليمين المشاكس، وإغراق باخرة آلتالينا قبالة شاطئ تل أبيب وكانت ترسل أسلحة للإيرغون، وبقيت النقمة على إسحق رابين الذي قاد الهجوم على الباخرة والإيرغون آنذاك حيّة في اليمين الأقصى من الحركة الصهيونية إلى حين اغتياله أواخر العام 1995، حذفاً لخيار التسوية مع الفلسطينيين الذي يبدو أنه كان أخذه على عاتقه في نهاية حياته، كما يبدو أنه أُقفل عملياً في إسرائيل، باغتياله. فيما سكان غزة يجبرون مرة على الانتقال إلى جنوب القطاع، ومرة إلى شماله، ويظهر على نحو جليّ هدف إلحاق عطب ديموغرافي بالمجتمع الغزاوي، فإن معظم سكان الجنوباللبناني والضاحية الجنوبية لبيروت نزحوا إلى المناطق الأخرى. لماذا العودة إلى حرب 1948 اليوم؟ لأنها، بعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين وتلاوة بن غوريون لإعلان "الاستقلال" دامت شهراً، فهدنة لشهر، فأيام قتالية عشر، سقطت فيهم اللد والرملة والناصرة، في مقابل فشل الخطط الموضوعة السيطرة على المدينة القديمة في القدس. ثم كانت "الهدنة الثانية" لأشهر عديدة حتى 15 أكتوبر. تخللها اغتيال المبعوث الأممي والديبلوماسي السويدي، الكونت برنادوت، على يد منظمة شتيرن، ليحي اليمينية، إعداماً لمقترحه المتمثل بضم كل من الضفة الغربية وصحراء النقب للأردن وتدويل القدس. وهنا أيضاً استفادت إسرائيل من القسمة بين اليسار واليمين فيها. اليسار الصهيوني المتحكم بمشروع الدولة في طور تأسيسها نظر إلى مقترح برنادوت على أنه خطة قضاء على إسرائيل. اليمين المتطرف قتل الرجل. اليسار استفاد من نتيجة الفعلة أولاً لأنه أطيح بالمقترح، وثانياً لتجريد حملة جديدة على المنظمات المسلّحة اليمينية آنذاك وحملها على الانتظام في الهيكلية المركزية الهرمية المتشكلة حول الهاغانا السابقة. هذا بالنسبة لحرب 1948، لزمن النكبة، وقد أسفرت عن اقتلاع 750 ألف فلسطيني من أرضهم وبمقتل 15 ألفا من أبناء الأرض. في الحرب الحالية، يبدو الترانسفير ممتنعاً، في النطاق الفلسطيني في ضوء المعطيات الحالية، لكن عدد القتلى لا يقل عملياً عن ستين ألف فلسطينيولبناني ويمني وسوري حتى الآن، وفيما سكان غزة يجبرون مرة على الانتقال إلى جنوب القطاع، ومرة إلى شماله، ويظهر على نحو جليّ هدف إلحاق عطب ديموغرافي مزمن بالمجتمع الغزاوي، فإن معظم سكان الجنوباللبناني والضاحية الجنوبية لبيروت نزحوا إلى المناطق الأخرى. الحرب تتمادى، وأدبيات وقف إطلاق النار والتهدئة على هوامشها تتحول يوماً بعد يوم إلى مسخرة. مقارنة بتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، تبدو كحرب متواصلة بامتياز. في مقابل هدنة أولى وثانية ثم هدن متفرقة في حرب 48-49. وتسعة أيام قتال في حرب 56. وأيام ستة في حرب 67. وأقل من ثلاثة أسابيع في حرب أكتوبر. ثلاثة أشهر من الاجتياح للبنان صيف 82. حروب كانت تمتد لأسابيع مع كل من حزب الله وحماس في العقود السابقة. الآن ابتعدنا عن هذا الإيقاع كلّياً. بدّل الصراع ليس فقط هويته. ما الذي بقي منه كصراع عربي – إسرائيلي؟ هل هو فعلاً صراع إسرائيلي – إيراني ليس إلا؟ أو صراع إسرائيلي مع حركات الإسلام السياسي كما يحاول أصدقاء الليكود من العرب التأطير؟ أم صراع بين الغزاة والسكان الأصليين، هكذا، بشكل "عار"، ومطلق، كما يسعى المتأثرون بمنظار "ما بعد الكولونيالية" التشديد؟ أقل الإيمان الإقرار بأن هوية الصراع لم تعد واضحة، بل أن الصراع هو في جزء أساسي منه هو صراع على تحديد ماهيته، هويته، ضرورته من عدمها. وفي الوقت نفسه هو صراع لم يعد من المعروف كيف يخرج من "الزمن المتواصل" للتدمير فيه إلى "الزمن المتقطع" في تاريخ النزاعات السابقة بين إسرائيل والعرب. هل يتجه مفهوم الهدنة بحد ذاته إلى الانقراض أو التلاشي في قرننا؟ لكن الحرب متواصلة أيضاً في أكبر بلد أوروبي من حيث المساحة، أوكرانيا، وذلك منذ عامين ونصف، بلا انقطاع. وفي النموذجين، تعكس تواصلية الحرب مناخاً دولياً سوداوياً، من جملة عناوينه تصدّع نظام يالطا، منظومة الأممالمتحدة. وهذا ما يدخلنا في لحظة نحاول أن نتدبر فيها واقعنا، ونخفف الويلات، بصكوك من زمن منقض. خذ لبنان مثلا. فلا القرار 1701 ولا اتفاق الطائف ولا قنوات ضبط النزاعات التي انبنت على أساسها الأممالمتحدة يمكن التعويل على بقية حياة فيها. وطبعاً لا يمكن التعويل على العمل العربي المشترك. المضحك المبكي في الحالة الأوكرانية مثلاً، أن دونالد ترامب وحده، عشية استحقاق رجعته إلى البيت الأبيض، يعد بإقفال الحرب، لا تعرف كيف، ويكاد يكون، في تصريحاته، بالتعويل على المونة على علاقته مع فلاديمير بوتين. النظام الدولي الذي كان اغتيال الكونت برنادوت، واحدة من الرصاصات المبكرة في نعشه بات أقرب ما يكون إلى حالة ركام. لا يعني أنه لن يكون هناك من مخارج من هذه الحروب. لكن المخارج لم تعد ممأسسة. كذلك بالنسبة إلى الحروب الأهلية. حرب لبنان امتلأت بالهدن وفترات وقف إطلاق النار. الحروب الأهلية في عالم اليوم تشتد أو تخفت. بلا هِدَن. المفارقة في المقابل، أن الحرب المتواصلة التدميرية الحالية، ضد غزةولبنان، تزيّن لنفسها بأنها تتمدّد في الوقت، وتعصف معها بالعمران والانسان، علّها تكون الحرب الأخيرة. تسوّغ الحرب "الدائمة" لديمومتها، بشرط، أو وعد أن تكون "الأخيرة". القدس العربي