هذه قراءة بسيطة ومتواضعة في طبيعة العلاقة بين الأدب والتاريخ من خلال نظرة عامة أو كبداية-انطلاقا من أن حركة الطفل تبدأ عامة ثم تتجزأ-أقدمها لكم. "بين التاريخ والأدب قراءة في طبيعة العلاقة وجدليتها". ماذا يقدم لنا التاريخ وماذا يقدم الأدب؟ يقدم لنا التاريخ معلومات وحقائق من الواقع،قد تكون هذه الحقائق مثبتة بالأدلة والبراهين والآثار الحية وقد يكون بعضها الآخر تخمينيا يعتمد على قدرة وذكاء المؤرخ في الربط بين الأحداث المختلفة وتوقع نتائجها. وسواء كانت تلك الحقائق من هذا النوع أو ذاك فإنها تخلو من الخيال الجمالي وتقدم في صورة جافة يغلب عليها الطابع التحليلي والمنطقية. الأدب يقدم لنا واحدا من اثنين: إما أن يقدم لنا الأدب انعكاسا للواقع المعاش مغلفا بخبرة الأديب الجمالية التي يستخدمها في التعبير عن الموضوع ،وانطباعاته الخاصة عن هذا الواقع; بمعنى آخر وجهة نظره فيه والتي قد تظهر أحيانا بصورة غير مباشرة وفى أحيان أخرى قد تظهر واضحة ومقصودة. وأما أن يقدم لنا عالما خياليا خاصا محاولا أن يوهمنا بواقعيته وعلى أساس درجة هذا الإيهام يكون نجاح العالم الخاص الذي ابتكره الأديب في تحقيق الغرض المرجو منه وفى إثبات قدرة الأديب ومهارته في إيهامنا بواقعية عالم متخيل أو مفترض. وفى كلتا الحالتين فان العمل الأدبي سوف يحفل بكمية لا بأس بها من التعبيرات المجازية والصور الفنية والإسقاطات الرمزية. .. بين المنهج التاريخي والمنهج الأدبي ربما سيصبح من قبيل البداهة بعد ما ذكرناه حول طبيعة ما يقدمه لنا التاريخ وما يقدمه الأدب أن نقول بأن:الموضوعية تغلب على المنهج التاريخي نظرا لأنه يقدم لحقائق ومعلومات خارجة عن ذات المؤرخ. بينما تغلب الذاتية على المنهج الأدبي لأنه كثيرا ما يعبر عن تجارب ذاتية خالصة نابعة من داخل الأديب أو عاشها بنفسه،وقد يلجأ الأديب إلى تصوير تجربته الخاصة ذاتية كما هي وقد يعمد في أحوال أخرى إلى صياغتها بطريقة ما تحولها إلى تجربة عامة يشاركه فيها القراء والمجتمع. وحين يريد الأديب أن يعبر عن تجربة عامة بالأساس-تجربة مجتمع أو شعب أو جماعة معينة من الناس- فانه حتى في هذه الحالة يصوغ تلك التجربة بحيث يصبغها بأفكاره الخاصة عنها من حيث يراها هو، كما تظهر في صياغته الإبداعية الخاصة انفعالاته الوجدانية تجاهها. فالأديب في كل الحالات إذن غير قادر أبدا على التملص من سلطان ذاته متمثلا في فكره ووجدانه. ..بؤرة الاهتمام بين التاريخ والأدب يركز التاريخ على رصد الأسباب والنتائج;فهو يهتم بالبحث في أسباب الظواهر ونتائجها،ما ترتبت عليه الأحداث وما نتج عنها أما الأدب فهو يميل أكثر إلى تركيز اهتمامه على ما وقع بينهما(بين السبب والنتيجة) ونستطيع أن نفهم ذلك إذا تخيلنا على سبيل المثال لا الحصر :ماذا لو أراد مؤرخ أن يعرض لقضية النكسة 1967؟ وماذا لو أراد الأديب ذلك أيضا؟ فان هذا المؤرخ سوف يميل إلى رصد الظروف والمؤشرات الدالة التي سبقت وقوع النكسة وذلك لمعرفة أسباب حدوثها وأسباب الهزيمة ثم سيعرض للحدث نفسه(النكسة) بطبيعة الحال باعتبار أنه يؤرخ له،لكن عرض الحدث ليس عاملا رئيسيا في منظومة السرد التاريخي وإنما هو مجرد عامل مساعد! قد يبدو هذا القول غريبا بعض الشيء،لكنها الحقيقة ،انه حلقة الوصل بين الأسباب والنتائج- هي عوامل أساسية-والتي متى عثرنا عليها وعبرنا منها إلى الضفة الأخرى -النتائج –فإننا لسنا مضطرين لأن نعبر عنها أو نفصل القول فيها بالضرورة. الحدث لا يبنى نفسه وإنما يبنى على غيره(الأسباب) وبينما تمثل الأسباب حجر الأساس الذي يعتمد عليه بناء النص التاريخي وتمثل النتائج الزبدة النهائية للموضوع والمغزى الذي يرتجى أن يفهم والدروس التي يرتجى أن تستفاد فان الحدث لا يمثل في هذا المقام إلا حلقة الوصل التي يمكن الاستغناء عنها بمجرد الحصول عليها للنفوذ عبرها والوصول إلى المبتغى ومع ذلك فلا يمكن لكل ماسبق أن يتم بدونها فهي عنصر بالغ الأهمية، جسر له قيمته! في مرحلة معينة من مراحل السرد التاريخي.