يبحث كل منا في صديقه على واحة يستأنس بها، ويستظل بأشجارها، ويرتوي من عذوبة آبارها لكي يواصل حياته، إذ تجمع الدنيا بين النعيم والشقاء، ويحتاج الإنسان إلى من يشاركه همه، ويقاسمه فرحه، ويستشيره في أمره، وهذا ما ينشده في رفيق الدرب. ولكن الكارثة أن تتحول هذه الواحة إلى مزرعة أشواك. ولا يلقى الإنسان الراحة حيث استودع صديقه قلبه، وآمنه على أسراره وطموحه وأحلامه؛ عندئذ يخسر الإنسان دنياه ويحمل نفسه المزيد من الأعباء والضغوط النفسية، ويفتقد من كان يتوقع أن يعينه على الخير وفعل الصالحات، ومشاركته في الحلوة والمرة. الإنسان بطبعه اجتماعي ويتوق للصحبة ولا يمكنه الاستغناء عنها، وبما أن الصديق له الأثر الكبير على حياة الفرد والمجتمع، فما هي الاحتياجات التي تشبعها الصداقة، وكيف يتأثر الإنسان في حياته بأصدقائه؟ وكيف يختار الشباب أصدقاءهم؟ وما أهمية الصداقة اجتماعيا ونفسيا وخلقيا في حياة الإنسان؟ وهل وجود الأصدقاء في حياتنا مجرد قدر، أم أنه اختيار يحاسب عليه الإنسان، ويتحمل عواقبه؟ أسئلة عن مفهوم الصداقة ومعاييرها، ألقيناها في هذا الروبورتاج. الصاحب ساحب يذكر منير، طالب بالجامعة: "أعترف أنني لم أضع في بدايات صحبتي للآخرين معايير محددة؛ وعلى وجه الخصوص التدين، غير أنني مع الأيام شعرت بأهمية الصحبة الصالحة". وأضاف: "بصراحة، لم أكن أدري أن الصداقة تؤثر في سلوك الفرد، وتعدل من توجهاته. وبعد أن خضت تجربتي مع شباب لا يتمتعون بحسن الخلق أيقنت أنني سأنزلق، ففكرت مليا، وابتعدت ووجدت نفسي وآمالي بين الشباب المسلم". "من فاته ودُّ أخٍ صالحٍ.. فذلك المغبون حق يقين"، بيتٌ من الشعر يرفعه محمد -طالب بكلية الآداب - كلما اقترب من أحد زملاء الجامعة ، ويتابع: "الصداقة تغذي الأخلاق وتستثمر المبادئ. و الأصدقاء كنوز يجب البحث عنهم، وتحمل التعب من أجل اكتشافهم؛ حتى لا تختلط علينا الأحجار بالجواهر". وبنبرات واثقة تحدثت إلينا لينا ، طالبة صيدلة : بالطبع أختار صديقاتي وفق معيار التدين والأخلاق. فصديقتي المتدينة ستعينني وتأخذ بيدي نحو بر الأمان، ولكن صديقة السوء ستشدني نحو الهاوية حتى لو تحصنت بأخلاقي، فكما يقولون "الصاحب ساحب". بينما خالفت الآراء السابقة ربا -طالبة بكلية التجارة - إذ ذكرت: "أصاحب الجميع ولا أضع معايير محددة، ولا أتخاذل عن مصادقة غير المتدينة، فربما آخذ بيدها نحو طريق الصواب". واستدركت: "وبالطبع فإنني بشخصيتي القوية لن أتأثر أو أنجرف مع التيار". الوفاء والإخلاص أهم من "التدين"! و يشير خالد ، طالب في السنة الرابعة بقسم تسويق كلية إدارة الأعمال: "هناك مواصفات مهمة أحتاج إليها في الإنسان الذي أصادقه، وليس بالضرورة أن يكون منها التدين. فالوفاء والإخلاص أهم، فماذا يفيد إن تعاملت مع شخص يدعي التدين وهو خائن". ويحكي عن معاناته مع الأصدقاء جابر، طالب علم الاتصال: "لقد عانيت سنوات ممن يسمون أنفسهم أصدقاء، وتجاهلت هذه المعاناة لسنوات، ولكن هذه المعاناة جعلتني أعيد النظر، وأعيد ترتيب أصدقائي. وفرزت الجميع واستبعدت معظمهم، ومن تبقوا يتصفون بما يلي: التقارب في الفكر والتوجه والطموح". و أوضح أن التدين ليس من الصفات التي يبحث عنها في الأصدقاء؛ وعلل بقوله: "رغم أهمية التدين فإنني لست وصيا على الناس؛ لأني لا أرى نفسي أني بلغت هذا الأمر". أما أيمن -طالب بجامعة العلوم الإجتماعية - فيشير: "أهم ما أبحث عنه عند اختياري للأصدقاء هو حسن الخلق والاهتمام بالدراسة وعدم إهمالها". واختار أحمد -طالب بكلية اللغة العربية - صديقه بناء على القاعدة التي أسسها لنا الرسول صلى الله عليه وسلم: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل". لذا يرفض أحمد مصادقة من لا خلق له أو من يحمل الدين مظهرا وليس تطبيقا. ويؤكد: "يخطئ الإنسان في حق نفسه حين يختار من لا خلق له، فيحتاج المسلم لمن يشاركه في فعل الخير والطاعات، ويكون مرآته الواضحة الشفافة؛ تستر العيوب وتحاول إصلاحها، وتقوي من عزم المحاسن، ويعضدها بالمساندة دائما". "الصداقة" عند الفتيات وتحرص الفتيات أكثر من الشباب على أن يكون الخلق الحسن والتدين أهم الصفات المتوفرة في الصديقة، ويبدو ذلك من حديث هويدا ، طالبة في تخصص الصحافة ؛ إذ حددت أسسا لاختيار من تصادقه على رأسها الأخلاق، والالتزام بالأصول والقيم المنتشرة في المجتمع. وعن أهمية تدين الأصدقاء تقول هويدا: "يعد التدين عاملا جذابا لمصاحبة فتاة مثلها، فمن يعرف الله حق معرفته لا بد وأن تكون أخلاقه ومعاملته مع أصدقائه طيبة. وأستكشف من معاملة الناس من يصلح أن يدخل في باقة أصدقائي، وخاصة في الأفراح والأتراح؛ حيث تظهر المشاعر الحقيقية للود والحرص". وتتطلب رحلة البحث عن صديق وفيّ وصادق وخلوق وقتا طويلا، فليس الأمر هينا؛ بل يحتاج إلى تريث. هذا ما أشارت إليه هبة ، طالبة بكلية التجارة. وأضافت: "هناك صفات أساسية تحدد صفات الصديق الصالح؛ أهمها الأمانة والصدق، وعدم التصرف بشكل يدخل الشك والريبة على المحيطين، بالإضافة إلى الالتزام الخلقي، والذي يمكن معرفته من خلال المظهر العام والتصرفات". وتتحدث عن الصداقة في حياتها حنان غراس، طالبة بالسنة الرابعة اللغة إنجليزية: "لا يمكنني العيش بدون صديقة. فمن ذا الذي يمكنه اجتياز صعوبات الحياة دون سند من شبكة العلاقات الاجتماعية التي تضم الأقارب، والأصدقاء، والزملاء. ومن أهم معايير اختياري لأصدقائي أن تكون هذه الصديقة على خلق حسن ووفية ومحافظة على الأسرار". وتختم كلامها: "الصداقة فن وصناعة وأخلاق، وأي صداقة مبنية على الخلق تستمر وتبقى، عكس التي تنبني على المصالح، وتبادل المنافع فقط؛ فإن عمرها قصير".
صالح الدوسي محاضر بقسم التربية : "رئة ثانية يتنفس بها الإنسان" ويلتقط الدكتور "صالح الدوسي -محاضر بقسم التربية بكلية علم الإجتماع- أطراف الحديث حول الصداقة في حياة الإنسان السوي، ذاكرا: يقول علماء الاجتماع إن الإنسان مدني بطبعه، ولربما قيل في اسم "الإنسان" إنه يأنس بغيره؛ ولذلك حينما أراد الله أن يعاقب الثلاثة الذين خلفوا منعهم من الأصدقاء والأصحاب، فكانت عقوبة من فوق سبع سموات ألا يتحدث معهم أحد. وذكر في هذا الوصف القرآن الكريم: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} [التوبة: 118]. ولذلك من مصادرة الفطرة أن ننعزل عن المجتمع، ومن مصادمة الفطرة أن ننطوي عن النفس.. مشيرا إلى أن "النفس البشرية السوية ترنو إلى الصديق الوفي". وعن الاحتياجات التي تشبعها الصداقة يقول: "الصداقة تعتبر رئة ثانية يتنفس بها الإنسان، ولذلك هي تشبع حاجته إلى الشكوى من ألم، يقول الشاعر: فلا بد من شكوى إلى ذي مروءة *** يُسْليك أو ينسيك أو يتوجع. وتعد الصحبة مدرسة تربوية تنافس المدرسة النظامية والإعلام ويسمونها بالمجتمع، وتقول العرب: "الصاحب ساحب"، فإما أن يسحب إلى الخير أو يوجهك إلى الشر. مختص في التنمية البشرية : "الأثر يقع في النفوس بالموقف العملي الدائم والمتكرر" ويشرح الأستاذ عبد الله الشيباني –مختص في التنمية البشرية- شخصية الصديق التي يجب التأثر بها: "هي الشخصية الصادقة مع نفسها، والمنسجمة مع أهدافها، والمتخلقة بالأخلاق الحسنة المتعارف عليها مع الناس". ويستدرك: "توافر شرط الأخلاق الحسنة في الصديق يعني أن يكون قادرا على خدمة الآخر ومحبته واحترامه بصدق والصبر عليه؛ فالأثر يقع في النفوس بالموقف العملي الدائم والمتكرر، وليس -كما يظن البعض- بتنميق الكلام وتحسينه والتفلسف من أجل الإبهار، وهذا منهي عنه في ديننا الحنيف. وسلوكك ومعاملتك مع الناس تتطلب منك القدرة على تدبير ذاتك -أو نقول نفسك- وتوجيهها نحو السلوك الحسن ثم الأحسن. وهنا يتفاوت الناس؛ منهم من يمتلكه الغضب، ومنهم من تحكمه الأنانية والأثَرَة، ومنهم من يشح بالابتسامة، ومنهم من يعجز عن قول الكلمة الطيبة والوفاء بالوعد والصدق في الحديث... إلخ". الدكتورة حياة بوفراشن أستاذة علم النفس : " شخصا سلبيا ينفر منه الآخرون" وحول كيفية التصرف حيال الأصدقاء الذين يخطئون بحقك، فتقول الدكتورة حياة بوفراشن، أستاذة علم النفس: "الخطأ وجرح الآخر أمر وارد في كل العلاقات الإنسانية، هنا يجب أن يكون الشخص له الميول إلى السماح وتجاوز الأزمة، وهذا بطبيعة الحال يتطلب نضجا وتجربة في الحياة. فهناك بعض الأخطاء التي من الصعب تجاوزها؛ ففي هذه الحالة بدل القطيعة قد يلتزم الشخص حدوده، ولا يعطي فرصة أخرى للغلط وللأذى. وإلا فإذا اعتمدنا على القطيعة عند كل خطأ فسيصبح كل واحد في جزيرة يستفرد بنفسه". وتكمل: "صدمات الأصدقاء أو المعارف لا يخلو منها زمان ولا مكان، ولكن يجب دائما تجديد الأمل وإعطاء فرص جديدة للأشخاص؛ وإلا فسيعيش الشخص في فردانية وسوداوية، تجعل منه شخصا سلبيا ينفر منه الآخرون". محمد صالحين أستاذ الفكر الإسلامي: " ديننا حث على التدقيق في الاختيار" ويتحدث في هذا السياق الدكتور محمد صالحين، أستاذ الفكر الإسلامي "يختار المرء صديقه عكس الأقارب والرحم، ومن ثم حث ديننا الحنيف على التدقيق في الاختيار، فإن المرء تعرف أخلاقه وفساده، بل تستكشف أماله وطموحاته؛ إذا عرف أصدقاؤه. وإذا كان رسول الله يمثل القدوة الحسنة والأسوة الصالحة، فإن لنا أن نتمثل بطريقة اختياره لأقرب أصدقائه؛ إذ قال: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا". وكما يجامل الإنسان أصدقاءه ليستحوذ على قبولهم، عليه أن يتقرب إلى أصدقائه بما يحبونه ويهوونه". ولتوضيح هذا المعنى يشير د. محمد صالحين إلى الآتي: "إذا صادق الإنسان الأخيار انتقل إليه خيرهم، وإذا صادق العابثين أصابه كثير من شرهم، فالشاب إذا صادق من يحب مرضاة الله تعالى، ويسعى للالتزام بحدوده ويلتزم بأداء فرائضه، فإنه سيسعى جاهدا إلى التمثل بخلق هذا الصديق، فينضح على سلوكه صدقا وأمانة ووفاء ومروءة. والعكس صحيح، فإن الإنسان إذا صادق من يسعون لإرضاء أهوائهم وإرواء نزواتهم، والسعي وراء شهواتهم، فإنه يكون في موقف اختيار صعب؛ إما أن يرضي هؤلاء على حساب دينه، وإما أن يخالفهم ويخسر صداقته. كما لا بد وأن يعلم المسلم أن آثار صداقته لا تقتصر على أمور الدنيا، حيث تمد إلى أمور الآخرة، وفي ذلك يقول تعالى: {الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلا الْمُتَّقِينَ} (الزخرف: 67) فهؤلاء فقط الذين يسعدون يوم القيامة بصداقاتهم، ويقابل بعضهم بعضا ساكني القلوب". صبحي يازجي مختص في علم الإجتماع " قضية الإنسان والمجتمع" ويؤكد صبحي يازجي –مختص في علم الإجتماع - في بداية حديثه معنا على أهمية اختيار الصديق في حياة المسلم، معلقا: "الصداقة ليست مسألة عادية في الإسلام، بل هي من القضايا الملحة والمهمة؛ لأنها قضية الإنسان والمجتمع". ودلل على أثر الصداقة في تنشئة الشباب في المجتمع بانتشار التدخين وظهور المخدرات وغيرها من الأوبئة الاجتماعية؛ وأضاف: "في ظل غياب القدوة، وأمام انعدام رقابة الأهل واجتياح الغزو الثقافي والفكري لعقول شبابنا؛ وجدناهم يلتفون حول رفقاء السوء، وهذا ما انعكس على المجتمع الذي ناله نصيب من التفكك والتشتت". وعن الصفات التي يجب توافرها في الصديق أردف اليازجي قائلا: "يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي". ومن هنا علينا أن نضع معيار الإيمان في أول معايير اختيار الصداقة؛ ثم تأتي معايير أخرى كالفضيلة والوفاء والخلق الكريم والإخلاص والأمانة والصدق وغيرها الكثير من الصفات الحسنة".