نشرت : المصدر الشروق الجزائرية الثلاثاء 25 أغسطس 2015 09:00 ربّ ضارّة نافعة، وفي ثنايا كل محنة قد تولد المنحة، هذا ما ينطبق على الفتنة التي أثارتها وزيرة التربية الوطنية "نورية بن غبريط"، وحاشيتها التي زينت لها سوء العامية، فجاءت توصيتها باعتماد "الدارجة" في التعليم، بمثابة الصدمة التي استحثّت عقول النخبة العلمية، قبل أن تستفزّ مشاعر المدافعين عن هوية الأمة، لينقلب السحر على الساحر هذه المرّة، ليس بانتقاد مقترح الوزارة، المنافي لنظريات المناهج واللسانيات، أو الانتصاب دفاعًا عن مكانة اللغة العربية في هذه البلاد، بل تعالت موجة عقلانية غير مسبوقة، تنادي بمواكبة تحولات العالم الحديث، من خلال الدعوة الحثيثة لاعتماد الإنجليزية كلغة أجنبية أولى، وقطع الصلة مع لغة فولتير التي تخلّى عنها أهلها في عقر دارها، لصالح لغة المعرفة والتكنولوجيا، بينما لاتزال "القوى النافذة" في بلدان افريقيا ترهن مصير شعوبها ومستقبل أبنائها بلغة تترنّح، وهي في طريق الاندثار والموات البطيء! هكذا، ومن حيث لم تحتسب زمرة بن غبريط، ومن أوعز لها بمحاصرة العربية، تحرّكت "كتائب الكترونية"، للترويج عبر مواقع التواصل الاجتماعي، للانفتاح على لغة العالم، وموازاة مع ذلك، انتشرت المقالات الرصينة على أعمدة الصحف، من خيرة الكتّاب والأكاديميين الكبار، تدحض مبرّرات الهيمنة الفرنسية على الحياة الجامعية تحديدا، وفرضها في المنظومة التربوية، بينما هي تتراجع إلى درجة الانحصار في كل أرجاء المعمورة، إذ تؤكد دراسات دولية بهذا الخصوص، أنّ 125 مليون فقط، من مجموع 7 ملايير في العالم يتحدثون الفرنسية، ما يعني أنّ 98 بالمئة من سكان الكرة الأرضية لا يتكلمونها، في حين جاءت فرنسا على المرتبة 12، وفق لائحة اليونيسكو للكتب الجديدة المنشورة، سبقتها كل من تركيا وباكستان واسبانيا وإيران والهند وروسيا، فضلا عن الصين والمملكة المتحدة وأمريكا واليابان، وكشفت ذات الدراسة المُحكمة، أنّ 4 في المائة فقط من البحوث في العالم، ينشرها فرنسيون، ولا تتعدّى براءات الاختراع من أصل فرنسي 4 في المائة أيضا، ما جعل فرنسا متخلفة في جوائز نوبل للعلوم والاقتصاد. أمّا عن مستعملي الانترنيت بالفرنسية، فلا يتجاوزون 3 في المائة عبر العالم، والنسبة نفسها تقريبا للمواقع التي تستخدم اللغة الفرنسية وهي 4 في المائة . اندحار الفرنسية لم يتوقف عند حدود العالم، بل في فرنسا نفسها، ارتفع اليوم عدد المتحدثين بالانجليزية إلى 39 في المائة، وتشير التقارير، إلى أنّ مجموع الفرنسيين المتكلمين بالانجليزية في الواقع، يفوق نسبة الناطقين بالفرنسية في الدول الإفريقية الفرنكوفونية! أما في الأوساط الأكاديمية، فإنّ مدارس التجارة الفرنسية تقدّم 80 بالمائة من المقاييس بالانجليزية، والنسبة بكليات الهندسة في حدود 30 المئة، أكثر من ذلك، تسود اللغة الانجليزية في الأبحاث الدقيقة بصفة ساحقة، إذ أنّ نصف الباحثين في مختبر العلوم الطبية لا يتكلمون سوى الانجليزية. وهناك الكثير من التفاصيل في هذا السياق، لا يسع المقال لسردها، لكنّ الخلاصة برأي الخبراء، هي أنّ الفرنسية لم تعد صالحة للأفارقة، لا في التعليم ولا في البحث، ولا في علاقات التجارة والأعمال، حيث مافتئ هؤلاء يشدّدون، على أنّ مستقبل القارة السمراء مرهون بتطوير لغاتها الأصلية، كتراث للهوية، وأداة للتحصيل العلمي، ثم الانفتاح على اللغات الحية غير الفرنسية، للاستفادة من منجزات الحداثة والمعارف الجديدة للبشرية. لكن ومع كل هذه البراهين الدامغة، ماتزال النخب المستلبة تستميت في تخليد اللغة الفرنسية، حتى أصبحت عقدتها النفسية تجاه الإنجليزية تضاهي، وقد تتفوّق أحيانا على مشكلتها مع اللغة العربية، لأنّها لا تملك أي حجّة منطقية أو واقعية، لرفض الاهتمام بلغة شكسبير، بدل الاتكّال على "غنيمة حرب" صارت سلعة فاسدة مع مطلع الألفية الثالثة!