كانت الساعة تشير إلى العاشرة و25 دقيقة من صباح أمس حينما وصلنا ولاية سوق أهراس قادمين إليها من عنابة، وكان أملنا الكبير هو أن نجد المنزل العائلي للبطل الأولمبي توفيق مخلوفي سريعا خاصة وأن درجة الحرارة كانت مرتفعة جدا لدرجة لم يكن بالإمكان تحملها (كانت تشير إلى 46 درجة مئوية في لوح السيارة) ولأننا كنا ملزمين بإنجاز "روبورتاج" مطول وتحريره في أسرع وقت حتى يكون بين أيدي قرائنا في عدد اليوم، فإننا دخلنا في سباق ضد الزمن لأجل إيجاد المنزل ومنه الشروع سريعا في تأدية مهمتنا حتى نربح الوقت. منزله في "دالاس 2"، وراية وطنية عملاقة تستقبل الزائرين وجرت الأمور وفق ما تمنيناه، حيث لم نجد أي صعوبة في إيجاد منزل عمي "يونس" والد العداء توفيق مخلوفي، فمنذ البداية دلنا بعض الأشخاص الذي سألناهم عن حي "قوسيم عبد الحق" المعروف أكثر بإسم "دالاس 2" والذي يقع في مخرج المدينة. وبين البنايات الكثيرة الموجودة في هذا الحي الكبير كان لزاما علينا أن نجد المنزل الذي تعرفنا عليه بمجرد أن شاهدنا راية وطنية عملاقة معلقة عند مدخله، حيث تأكدنا وقتها أن المنزل لا يمكن أن يكون إلا منزل عائلة مخلوفي. عمي "يونس" (الوالد): "مرحبا بكم في منزلكم ومبارك على الجزائر كلها" وبعد أن فتحت علينا باب الدخول إحدى شقيقات توفيق، أطل علينا الوالد عمي "يونس" بابتسامة عريضة وبشكر خاص على زيارتنا له، حيث أدخلنا إلى "الصالون" أين كان يوجد شقيقه "مبروك" وقد كانت مفاجأتنا كبيرة لما رفض أن نبارك له الإنجاز الذي حققه ولده سهرة أول أمس الثلاثاء حيث قال لنا إنه من الواجب أن نهنئ نحن الجزائريين بعضنا البعض جميعا ولا تقتصر التهاني على إبنه وعلى عائلته فقط: "أرحب بكم وأشكركم على الزيارة... أنتم في بيتكم ومبروك على الجزائر كلها وليس على مخلوفي وحده". عاش ليلة بيضاء ولم ينم بعد التتويج ومن ملامح وجهه بدا لنا عمي "يونس" منهكا جدا رغم أن الابتسامة لم تفارقه تماما طيلة تواجدنا في بيته طيلة 3 ساعات كاملة، حيث أكد لنا أنه يعيش في حلم منذ نهاية السباق الذي عرف تتويج إبنه بالميدالية الذهبية: "لا أخفي عنكم، لا أصدق حتى الآن ما حدث حتى أني لم أغمض جفني طيلة ليلة أمس، حيث لم تبارحني صور تتويج إبني". وعكس الوالد فإن الوالدة خالتي "شهلة" تلذذت بنوم هادئ وهنيء بعد تتويج فلذة كبدها وأكدت لنا: "منذ أيام لم أنم بطريقة عادية حتى ليلة اليوم... الحمد لله كانت ليلة رائعة لن أنساها أبدا". وطني بدرجة مميز جدا ويبكي بحرقة كلما يتحدث عن العلم والشهداء وقد اكتشفنا من خلال حديثنا مع والد مخلوفي تلك الوطنية الكبيرة المغروسة في كيانه وإن كان الأمر ليس غريبا علينا لأنه ينحدر من منطقة أنجبت مجاهدين كبارا أيام الثورة التحريرية وهو الذي أفنى حياته في خدمة الوطن ضمن صفوف الجيش الشعبي الوطني الذي اشتغل فيه إلى غاية التقاعد (يبلغ 64 سنة الآن)، فإن الذي لفت انتباهنا هو ذلك الحماس الذي كان يتحدث به عن الجزائر حتى أن الدموع غلبته في مرات كثيرة ووصل به الأمر للإجهاش بالبكاء كلما تحدث عن قيمة العلم الوطني والشهداء. العائلة انتظرت وصول إبنها إلى المجد رغم كل ما عاناه ونحن نتحدث إلى عائلة مخلوفي وخاصة الوالدين عن إنجاز "توفيق"، لمسنا أن لا أحد تفاجأ ببلوغ العداء مصاف الكبار ووصوله إلى نيل ميدالية في "الأولمبياد"، حيث أن الجميع كان متأكدا من أنه سيصل العالمية بسبب مثابرته في العمل وكل التضحيات التي بذلها في السنوات الأخيرة بعد أن أصبح يقطن بعيدا عن العائلة، كما أن إيمانه بإمكاناته كان كبيرا إلى درجة أنه تخطى كل الصعاب والعراقيل التي واجهته في مشواره وكم كانت كثيرة بتأكيد العائلة. خالتي "شهلة" (الوالدة): "توفيق كان يقول لي وهو صغير سيأتي اليوم وتشاهدينني في نشرة الثامنة" ولعل ما يؤكد بصفة لا تدع مجالا للشك أن توفيق مخلوفي كان يدرك جيدا أنه سيصل إلى مبتغاه ويصبح "نجما" كبيرا هو ما قالته لنا والدته خالتي "شهلة" التي كان يعدها منذ أن كان صغيرا بأن يصبح شخصية عمومية ومحبوبة عند الجميع: "توفيق كان يقول لي وهو لم يصل حتى السنة التاسعة من التعليم الأساسي إنه سيأتي اليوم الذي ستشاهدينني فيه ضمن نشرة الثامنة... كلامه كان يضحكني وقتها لكن الآن لما أتذكره أنفجر ضحكا وأقول العالم صغير وما كان أمس حلما تحول اليوم إلى الحقيقة". 7 أشهر غائب عن العائلة وحتى جنازة جده لم يحضرها وبالحديث عن التضحيات الكثيرة التي بذلها مخلوفي لأجل بلوغ المستوى الذي وصله الآن، هو أنه افتقد حتى عائلته بسبب تدريباته وتحضيراته للمواعيد الرياضية حيث أنه منذ 2009 -حين انضم إلى المجمع البترولي بالعاصمة- أصبح لا يتردد إلاّ قليلا وفي المناسبات على عائلته في سوق أهراس حتى أنه من أجل التحضير الجيد للأولمبياد لم يزر عائلته منذ 7 أشهر، خلالها توفي جده محمد الصالح (رحمه الله) منذ قرابة 5 أشهر غير أنه بسبب التزاماته الكثيرة لم يقدر على التنقل إلى سوق أهراس وحضور مراسيم تشييع جنازته وهو ما أثر فيه كثيرا بتأكيد والده. الوالد يقر بأنه كان معارضا لمشواره الرياضي وإذا كان البطل الجزائري قد عانى في مشواره من عدة عراقيل وصعوبات حتى وصل إلى ما هو عليه اليوم، حيث لم يكن سهلا أن يفرض نفسه خاصة لما انضم إلى نادي المجمع البترولي (مولودية الجزائر) لاعتبارات غير متعلقة تماما بالجانب الرياضي، فإن توفيق مخلوفي لقي بعض الصعاب في بداية مشواره أيضا من أقرب الناس إليه وهو والده الذي كان رافضا لفكرة توقفه عن الدراسة لأجل مشواره الرياضي، وقد كان حازما ومتمسكا بقراره هذا رغم تدخلات العائلة لأجل إقناعه بالعدول عن موقفه. من أجل الدراسة طرده من البيت مرات كثيرة عمي "يونس" الذي فتح صدره لنا أمس وتحدث لنا بكل عفوية لم يخف علينا أنه توصل به الأمر في مرات عديدة لطرد إبنه من المنزل وجعله يبيت في الخلاء بسبب هروبه من الثانوية أين كان يدرس من أجل عدم التفريط في حصصه التدريبية، وهو موقف كشف لنا الوالد أنه كان يقوم به في مصلحة "توفيق" لأنه كان يرى أن الدراسة كانت أمرا مقدسا وهي ما يضمن أكثر مستقبل إبنه مقارنة بالرياضة، حيث كانت مسيرته وقتها غير واضحة تماما رغم إمكاناته الكبيرة. رجيمي رجل الثقة الذي صقل موهبته تألق مخلوفي لا يمكن أن نربطه إلا بشخص واحد، بتأكيد الوالدين وهو مدربه لما كان ينشط ضمن نادي الحماية المدنية في سوق أهراس وهو رجيمي علي الذي كانت علاقته به خاصة جدا بعد أن اكتشفه في سباق مدرسي سنة 2003، قبل أن يضمه إلى ناديه وهناك صقل موهبته حيث من البداية لاحظ عليه صفات الأبطال فأولاه عناية خاصة وأخضعه إلى تدريبات منهجية وعلمية إلى أن وصل به إلى المستوى الدولي، إذ وضعه في خدمة المنتخب الوطني لتمثيل الجزائر في المحافل الدولية الكبرى. "المولودية" رفضته في 2008 وجعلته يتوقف عن التدريبات 48 يوما مخلوفي الذي تمكن تحت قيادة مدربه رجيمي في سوق أهراس من بلوغ مستويات جيدة مكنته سنة 2006 من التتويج بالميدالية الفضية للبطولة الوطنية للأواسط والبرونزية في دورة ألعاب البحر الأبيض المتوسط في ذلك الصنف، قبل أن يحرز في السنة الموالية لقب البطولة الوطنية للأواسط، عرفت مسيرته تذبذبا كبيرا سنة 2008 لما شعر بحال إحباط كبيرة حين عجز عن الانضمام إلى نادي مولودية الجزائر وقتها حتى أنه قرر اعتزال المضمار ولم يتدرب 48 يوما كاملا. رجيمي (مدربه): "لم أعد أكلمه وقتها وشعر بيأس جعله يعود بقوة بعدها" وعاش مخلوفي بحسب مقربيه بعد اعتزاله أياما عصيبة وصلت إلى أن مدربه رجيمي أصبح لا يكلمه كعقاب له على تصرفه غير المسؤول بعد أن رهن مستقبله الرياضي بمجرد أن تم رفضه وهو التصرف الذي لم يتصور أن يأتيه "توفيق" من أعز المقربين إليه وهو مدربه، هذا الأخير الذي شرح لنا أمس سبب تصرفه معه بتلك الطريقة: "لا أخفي عليكم أني وقتها لم أعد أكلمه تماما لأنه اتخذ قرارا سيئا... أعرف أنه شعر بحال يأس لكن طريقة تعاملي معه أعادته إلى صوابه وجعلته بعدها يعود بقوة خاصة أنه وقتها كان مازالا في مرحلة المراهقة ولم يتعد العشرين سنة". 2009: الحلم يتحقق أخيرا قبل التربع على عرش 1500م وطنيا عودة مخلوفي إلى التدريبات بعد 48 يوما من المقاطعة كانت مدوية لأنها سمحت له بالعودة بقوة إلى مستواه وأكثر في وقت وجيز، حيث تمكن في ملتقى عنابة الدولي من تحطيم رقمه الشخصي في مسافة 1500م محققا توقيتا ب 3 دقائق و34 ثانية وهو ما جعل مسؤولي المجمع البترولي مطلع سنة 2009 (تغير إسمها من مولودية الجزائر تلك السنة) يتصلون به ويعرضون عليه فكرة الانضمام إلى صفوفهم بعد تدخل إبن عنابة محمد خالدي عداء 5 آلاف متر سابقا. وقد تمكن مخلوفي بعدها مباشرة من التتويج بلقب البطولة الوطنية للأكابر. ذهبية وبرونزية في الألعاب الإفريقية ب "مبوتو"... بداية عهد جديد ومع انضمامه إلى المجمع البترولي، طرق مخلوفي أبواب المنتخب الوطني الذي شارك معه في ملتقيات دولية كثيرة وكان تألقه الأبرز معه سنة 2011 خلال الألعاب الإفريقية التي احتضنتها "مبوتو" عاصمة "الموزمبيق"، حيث وقتها تمكن من التتويج بالميدالية الذهبية في سباق 800 م والبرونزية في 1500 م، كما أنه من أبرز إنجازاته تلك السنة هو احتلاله المركز الثاني في ملتقى "ستوكهولم" الدولي ب "السويد". 7 أوت 2012: دخول التاريخ من بابه الواسع مخلوفي الذي شق طريق النجاح في صمت أعطى لنفسه آمالا كبيرة لتزعم اختصاصه 1500 م عالميا لما تمكن شهر جوان الفارط خلال تجمع "موناكو" الدولي من تحطيم رقمه الشخصي حين أنهى السباق بتوقيت 3 دقائق و30 ثانية وهو ما جعله يدخل "أولمبياد" لندن بثقة كبيرة في النفس، حيث أبهر كل المتتبعين في الدورين ربع ونصف النهائي قبل أن يخوض سباقا تاريخيا أول أمس الثلاثاء، حين كتب إسمه بأحرف من ذهب في سجلات تاريخ الرياضة الجزائرية و"الأولمبياد" محرزا المعدن النفيس في سباق تاريخي. مخلوفي أنت بطل... الجزائر كلها فخورة بك ولا يمكن أن نقول في حق مخلوفي الذي أدخل فرحة لا توصف للشعب الجزائري أول أمس سوى أنك بطل وأن 37 مليون جزائري فخورون بما حققته خاصة وأنك تمكنت من رفع راية الجزائر وجعل نشيد قسما يعزف ويدوي سماء لندن رغم أنوف الحاقدين الذين وصفوا نشيدنا بالعدائي. كما نود من خلال زيارتنا أمس ولاية سوق أهراس التأكيد أيضا أن سكان هذه الولاية لا يذكرون حاليا إلا إسم مخلوفي الذي جعلهم يرفعون رؤوسهم عاليا ويتأكدون من أن هذه الأرض لم تنجب إلا الأسماء الكبيرة وخير دليل على ذلك أنها الأرض التي ولد منها عنتر يحيى. ---------------------------------------------------------- عمي يونس (والد مخلوفي): "انتظرت تتويجه بالذهب وفرحت أكثر لعزف نشيد قسما في لندن" ماذا يمكنك عمي يونس أن تقول لنا اليوم عن تتويج إبنك بذهبية 1500 م في "الأولمبياد"؟ رغم مرور أزيد من 12 ساعة عن السباق (حاورناه منتصف نهار أمس) إلاّ أنني لست قادرا حتى الآن على تصديق ما شاهدته عيناي أمس. أنا أعيش حاليا في حلم حقيقي وليست لدي الكلمات المناسبة للتعبير عن فرحتي. نريد منك أن تروي لنا كيف عشت السباق. عشته لحظة بلحظة وعلى الأعصاب خاصة وأني لست متعودا على مشاهدة سباقاته على المباشر بدليل أن سباقي الدورين ربع ونصف النهائي شاهدتهما مسجلين، لكن أمس لم أتمالك نفسي وقررت مشاهدة السباق مباشرة رغم أني كنت أعرف أن الأمر سيكون صعبا عليّ. الحمد لله كل شيء مر بخير وذلك الأهم، لا أخفي عليكم أيضا أني بكيت بشدة في النهاية خاصة لما كان توفيق يقوم بدورة شرفية حول الملعب وهو يحمل القميص الوطني. هل تحدثت معه بعد تتويجه سهرة الثلاثاء؟ أمر واضح أني تحدثت معه، حيث أنه هو من اتصل بنا وقد تحدث معنا جميعا أنا ووالدته وإخوته وقد كان سعيدا جدا وفخورا بإنجازه. نريد أن نعرف ما الذي دار بينكما في المكالمة الهاتفية بعد تتويجه؟ لا شيء غير عادي، حيث هنأته وشكرته وهو سألني إن كنا قد أفطرنا جيدا أو لا... (يضحك). وهل أفطرتم جيدا قبل سباقه؟ لا... كنا كلنا قلقين وشخصيا لم أفطر، أعتقد أنه لا أحد تمكن من أكل أي شيء إلى غاية السهرة. بصراحة، هل كنت تنتظر أن يتوج مخلوفي بالميدالية الذهبية؟ كنت أنتظر ذلك وقلتها للجميع لأنه إنسان مثابر عمل وضحى كثيرا في مسيرته. هو مثلا لم يزر البيت منذ 7 أشهر كاملة وهذا أمر ليس سهلا لأنه عرف طفولة مضطربة بسبب بعض المشاكل حين اعترضت شخصيا على موضوع تركه الدراسة مقابل التفرغ لمستقبله الرياضي. هل يمكنك أن تشرح لنا أكثر ما قلته الآن؟ كان عليّ أن أفكر في مستقبل إبني ورأيت حين بلغ المستوى النهائي من تعليمه أنه من الضروري رغم فشله في الحصول على الب