ولم يسعنا نحن الصبيان كعادتنا غير التوجه إلى مكان التجمع لنلتقط ما يمكن أن يخلف العسكر من مخلفات ولقط.. فالتقطنا بعض الجعب النحاسية الفارغة المصوغة على شكل أصابع هي مخلفات لإطلاق نار عشوائي، وبعض زجاجات الجعة الفارغة التي كانت تفوح منها رائحة كريهة، وبعض علب السردين شبه الفارغة وبعض فتات القاطو المالح وبعض أعقاب السجائر وبعض شفرات الحلاقة ونحو ذلك من التوافه .. ولم يعدم أن ذاق بعضنا تلك الفضلة من السردين والقاطو وإن باشمئزاز.. ولكن أطراف مكان التمركز كلها كانت مليئة بنثار برازهم الأسود الغريب المنتشر هنا وهناك، ذلك أن البراز الذي ألفنا مشاهدته هنا لدى سكان المشتى أبيض لأن معاشنا الحبوب واللبن فيما العسكر يتناولون اللحوم والسردين ونحو ذلك فجاءت فضلاتهم على ذلك النحو من السواد، وإذ لم نكن نعرف ذلك فقد أولنا نحن الصبية سبب سواد برازهم أنهم روميون كفار؛ ولأن مصيرهم جهنم كان برازهم علامة على ذلك!.. والشيء بالشيء يذكر فمن الملاحظ أن مزابلنا في الريف أنظف مكان لأنها لا تضم غير الرماد ذلك أننا لا نستهلك غير العجائن.. حملات المداهمات والتمشيط للمشتى والدوار لا يمكن أن تحصر في عدد، إنما سأذكر ما كان منها خلف أثرا مباشرا .. من ذلك أن المسؤولين قرروا تخريب طريق البايلك قصد تعطيل حملات التمشيط على مستوى مدرج التافزة شديد الانحدار ذي التضاريس الصعبة، فسخروا المواطنين ليلة كاملة لهدم حواشي الطريق التي كانت أصلا لا تكاد تمر عليها العربات والآليات الحربية إلا بصعوبة وملء باقي ناصية الطريق بالصخور التي يسقطونها من أعلى .. وسرعان ما خرج العسكر في حملة يجمعون المواطنين لإصلاح الطريق وإعادتها إلى وضعها الذي كانت عليه، ولكن إصلاحها كان صعبا بالفأس والرفش، وبالفعل مر من هناك رتل من الآليات العسكرية وانحرف منها إلى الوهدة شاحنة لا أحد يعلم الخسائر التي نتج عن سقوطها في الوهاد ..ولم تمر أيام حتى جاءت حملة؛ ورأينا العسكر في قمة المدرج الصخري ولكنهم لا ينتشرون كعادتهم للمداهمة والتمشيط؛ وما لبثنا أن رأينا العساكر يفرون ويلبدون إلى الأرض ويتبع ذلك انفجارات مدوية؛ وطبعا في مثل هذه الأحوال من الحملات كان المسؤولون و الرجال يتسربون للاختباء في الشعاب والمخابئ ونعفى نحن الفتية من الذهاب إلى الجامع ونكلف بدلا من ذلك بالذهاب مع قطيع الغنم للرعي، في المساء علمنا أن تلك الانفجاريات المهولة هي بسبب وجود فرقة من الهندسة العسكرية تقوم بتوسيع الطريق من خلال تحطيم الصخور بالمتفجرات.