شهدت الجزائر منذ الستينات محاولات تعريب متعددة ، ابتداءً من تعريب وزارة العدل إلى تعريب قطاع التربية عبر مراحل إلى بدايات تعريب بعض الفروع العلمية في بعض الجامعات إلى أن وصلنا إلى قانون تعميم التعريب سنة 90 ثم تجميده أكثر من مرة كان آخرها بعد اغتيال معطوب الوناس. لكن الحقيقة الوحيدة التي بقيت ثابتة هي أن كل مفاصل الدولة الجزائرية وأغلب التخصصات العلمية والتكنولوجية لم يمسسها التعريب يوما، بينما تراجع التعريب منذ التسعينات بشكل متسارع إلى أن أصبح مقتصرا على العلوم الإنسانية في الجامعات، كما ارتد أغلب من كانوا يدرّسون بالعربية في العلوم الدقيقة وعادوا إلى الفرنسية و اكتسحت الفرنسية باقي مؤسسات الدولة والمؤسسات الخاصة. بل إن أحد رجال الأعمال أسرّ لي ذات مرة أنه لا يمكنه أن يستعمل العربية في مراسلاته وإدارته لأن ذلك يعني إغلاق وإفلاس شركاته. من الصعب مناقشة نية أو كفاءة من دافعوا أو حاولوا التعريب، ولا أعتقد أن ذلك مهم، ولكن حتما هذا المشروع وُضع بين أيد غير أمينة أو قليلة الكفاءة وتم إجهاضه جنينا في بطن أمه و خرج مشوها. لم يدرك من أشرفوا على مشروع التعريب طبيعة موازين القوى وتوجه من يمسك بمفاصل الدولة والذين كانوا حتما من أشد أعداء التعريب . كما لم يدركوا أنه لا يمكن القيام بهذه العملية التي تمثل مرحلة مفصلية في الاستقلال عن فرنسا من دون سند شعبي، فأهملوا رأي الشعب وكانت النتيجة هي إقصائهم جميعا من كل مفاصل السلطة والدولة وخلت الساحة لأنصار الفرنسية. أشير هنا إلى قصة عبد القادر فضيل الذي كان مديرا للتعليم الأساسي عندما رفض الرد على مراسلة بالفرنسية من وزارة الخارجية وطالبهم أن يكاتبوه بالعربية وبدل أن يراسلوه بالعربية أرسلوه خارج الوزارة . المفارقة التي نعيشها في الجزائر هي ترويج فكرة أن التعريب سبب تراجع مستوى التعليم والاقتصاد وكل الكوارث التي حلت بنا، وهو ما ينافي حقيقة ساطعة وهي أن كل الماسكين بمفاصل المؤسسات العلمية والتربوية والاقتصادية والوزارات هم ممن لا يتقنون كلمة واحدة بالعربية تقريبا ومن أشد مناصري فرنسة كل شيء. الآن ، ماذا حدث لأبناء الجزائر العميقة ؟ هؤلاء التلاميذ يدرسون إلى غاية الباكلوريا بالعربية ولا يكاد أغلبهم يكوّن جملة مفيدة بالفرنسية ثم يلتحقون بالجامعة ليجدوا أنفسهم مخيرين بين دراسة تخصصات لا يرغبون فيها باللغة العربية أو أن يعانوا معاناة كبيرة ويخفقون في كثير من الأحيان في دراسة تخصصات بلغة لا يتقنونها ، فتتولد لديهم عقدة نقص كبيرة ويتأخرون في دراستهم بينما تخلو الساحة تماما لطلبة من فئات اجتماعية أخرى تُعتبر الفرنسية لغتها الأولى تقريبا ، وهكذا يستمر خلق جدار فصل عنصري جديد بين قطاع عريض من الشعب وأقلية خيّرت أبناء الشعب بين الاستسلام للغة الفرنسية والتبعية السفلية لهم، وبهذا الشكل أصبحنا أمام أبارتايد لغوي جديد يتم ترسيخه في أنفس الجزائريين حتى غدت الفرنسية مرتبطة في أذهان أغلب الشباب الجزائري بالحداثة والتفوق والسلطة، وهكذا يصل الشعب إلى مرحلة الاستسلام أو السكوت عن عودة الفرنسية كما كانت عشية 62 حتى لا يعيش أبناؤه خلف جدار الفصل العنصري اللغوي.