بقلم: عبد الله لالي لا خير فيمن جفّ طبعا واشترى * * بلطائف الأدباء كأسَ مدامِ والشّعر كالبيداءِ: هذا مَهِمَهٌ * * قفرٌ ، وهذا مرتع الآرام
الجزء الثاني والأخير بنت عزوز امرأة.. صنعت علما هي امرأة صنعت علما وأهدت للأمّة رجلَ مجدها، ونجمَ عزّتها وفخرَها على الدّهر، هي والدة الشيخ الخضر حسين، كريمة المحتد طيبة الأرومة، وهي التي كانت تهدهده صغيرا مترنّمة:
" تكبر يا لخضر وتكون شيخ الأزهر" وكأنّها نظرت بنور البصيرة من خلف حجب الغيب، وكان ما أمّلت وصار الشيخ الأخضر حسين الإمامَ الأكبرَ شيخَ الأزهر، وحقّ للإمام أن يصدّر ديوانه بمدحه فيها، وذلك حين قال: " بنت عزّوز " لقد لقّنتنا * * خشيةَ الله وأن نرعى الذّماما ودرينا منك أن لا نشتري * * بمعالينا من الدّنيا حطاما ودرينا منك أنّ الله لا * * يخذل العبد إذا العبد استقاما ودرينا كيف لا نعنو لمن * * حارب الحقّ وإن سلّ الحساما أبيات تقطر شهدا، ورضابا مصفّى، وما أحلى ما وظّف فيها عبارة (بنت عزوز) فصارت كالنغم الشجيّ على اللّسان، هذه الأم العظيمة كانت سببا في تشكيل شخصيّة هذا الرّجل العملاق، علما وخلقا ودعوة، لقد لخصّ الشيخ تربية أمّه له في أمرين اثنين، لا يحتاج إلى ثالث لهما، إذا ما اجتمعا فيه، العقيدة القويّة، والخلق الزاكي، وقد فصّل بعض التفصيل في بيان هذه العقيدة
وذلك الخلق فقال:
" لقنتنا خشية الله " وخشية الله هي التقوى التي تنير درب صاحبها في الدنيا وتنجيه من المهالك يوم القيامة، ومن العقيدة أيضا أنّ الله يكون مع العبد المستقيم:
ودرينا منك أنّ الله لا * * يخذل العبد إذا العبد استقاما ومن الأخلاق الكريمة التي لقنته إيّاها:
(رعاية الذمام/ الزهد في الدنيا/ الاستقامة/ مواجهة الظالم وعدم الخضوع له). أربعة أبيات تستحقّ أن تدوّن في سفر الخلق الكريم وبرّ الوالدين، وأمّ مثل هذه يحقّ للشاعر أن يخصّها بمحبّته ويمدحها وأن يؤثرها على من سواها .. وبنت عزوز هي ابنة الشيخ مصطفى بن عزوز أحد أعلام تونس المعروفين، وأخوها أيضا من العلماء الذين يشار إليهم بالبنان، وهو الشيخ المكي بن عزوز. فالشيخ الخضر حسين عريق النّسب من جهتيه، فهو كما يقال معمّ مخول.. فلا جرم أن خلص معدنه وكان العلمَ المجلّى.
والأبيات السّابقة من قصيدة قالها في رثاء والدته رحمها الله، وهي من ثلاثة وعشرين بيتا، وممّا قاله فيها متألما أشدّ الألم، وكأني أسمع آهاته ويضطرب في أذنيّ أنينه:
كيف تخفيها أكفٌّ في الثرى * * كيف تحثو فوقها التّرب رُكاما أودعوها قعر لحدٍ ضربوا * * فوقه من لازب الطّين ختاما يا سقاة التّرب ماءً هاكم * * عبراتي إنّ في الجفن جماما فأمّ الإمام كانت تحظى في نفسه بمكانة لا تدانى، وقد ذكرها مرّة إذ حضره العيد في ألمانيا وهو بعيد عن أمّه التي تركها في البلاد الشام، فقال مشتاقا: أين جيراننا، وأين المصلّى * * وخطيب يهدي لخير صراط أين منّي شفيقة القلبِ تُهدي * * دعوات مثل الظباء عواطي في الغربة وفي الوحدة، وتحلّ ذكرى العيد، فأوّل ما يفتقد المرء الأهل والأقارب والجيران، وعلى رأس هؤلاء جميعا الأمّ الفاضلة المرأة النبيلة الحانية، التي بلمسة واحدة منها يزول كلّ بؤس الدنيا ووحشتها.. !
* الأصدقاء والخلّان.. من المعاني السّامية التي تلفت الانتباه وتشدّ الأنظار في ديوان (خواطر الحياة)، حديثه الطويل عن الصّداقة والأصدقاء، واستفاض في ذكر ذلك بشكل مفصّل، وكان للشيخ محمّد الخضر حسين علاقات كبيرة جدّا، ومعارف فوق الحصر بحكم مكانته العلميّة والشعبيّة، لكن من أبرز الأصدقاء الذين تحدّث عنهم كثيرا في الدّيوان هما: صديقه الأوّل بغير منازع، الشيخ الطّاهر بن عاشور، والصّديق الثاني كان أحمد تيمور باشا.
وكان الشيخ الطاهر بن عاشور رفيق شبابه، وصفيّه الذي محضه الودّ، ولم تنقطع بينهما الصّلة حتّى بعدما ترك الشيخ تونس وهاجر إلى المشرق، فكانت بينهما مراسلات تدلّ على عمق تلك الصّداقة وترسّخها.
أمّا أحمد تيمور باشا فهو الأستاذ العَلَم البارز مشرقا ومغربا، والذي من شدّة الودّ والمحبّة بينهما أنّه أوصى بأن يدفن بمقبرته العائليّة، مقبرة آل تيمور، وقد نظم في صداقته تلك لِذَيْنك العلَمَين الشّامخين، فقال:
تقاسم قلبي صاحبان وددت لو * * تملّتهما عيناي طول حياتي وعلّلت نفسي بالمنى فإذا النّوى * * تَعُلُّ الحشا طعنا بغير قناة فأحمد في مصر قضى ومحمّدٌ * * بتونس لا تحظى به لحظاتي فيا لله، قضت حكمة الله أن يعيش بعيدا عن كلا صديقيه الأثيرين، مات الأوّل الذي كان منه قريبا، وظلّ الثاني بعيدا في تونس تفصل بينهما المسافات الطويلة والاستعمار البغيض، ونوى الدّهر الذي طالما شتّت المتصافِيَين، قضاء من الله وتدبير حكيم كثيرا ما تخفى عنّا معانيه.
وجاء في ديوانه هذه الأبيات اللّطيفة التي كانت جوابا على سؤال أحد الأدباء بتونس عن صلته بالشيخ الطاهر بن عاشور: أحببته ملء الفؤاد وإنّما * * أحببتُ مَن ملأَ الوِدادُ فؤادَه فظفرت منه بصاحبٍ إن يدرِ ما * * أشكوه جافى ما شكوتُ رقادَه ودريت منه كما درى منّي فتى * * عَرَف الوفاءُ نجادَه ووهادَه وهي أبيات سبكت سبكا مميّزا، وصِيغت صياغة لطيفة، لاسيما البيت الأوّل منها الذي يُلحظ فيه الصّنعة الأدبيّة، ولكنّها صنعة أديب مقتدر، وشاعر مطبوع.. !. وفي أبيات أخرى من الدّيوان يعبّر بها الشيخ عن التضحية من أجل الصّداقة وإيثار هوى الصديق يقول: سايرت خلا في الهجير فحاد عن * * ظلّ وآثرني ببرد هوائه فأبيت أن أَرِدَ الظّلال وصاحبي * * يلقى وهيج الشمس في غلوائه ولو احتسى الماء الزّعاق حسوته * * عبّا ولو جاء الفرات بمائه والودّ إن شابته يوما أثرة * * ظلّت معالم صدقه وصَفاتِهِ فلابدّ في الصّداقة من إيثار وتضحية، وتقديم الصّديق على هوى النّفس. وتكمل الصّداقة إذا كان ذلك السّلوك متبادلا بين الصّديقين كما جاء في هذه الأبيات، فالصّديق آثر الشيخ ببرد الظّلّ، لكنّ نفس الشيخ أبت له إلا أن يكون مع صديقه حيث كان تاركا الظّل الظليل.. فهذا هو أساس الصّداقة عند الشيخ الخضر حسين وهذه هي سجاياها.
يصف في بعض شعره صديقا فيقول: دعتني إلى ودّه فطنة * * يُجيد بها إن سألتُ الجوابا وما بين بُرْدَيه إلا أخٌ * * يؤانسني إن فقدت الصِّحابا أروم عتابا عليه وكم * * تفرّس ما رمته فأصابا يَهُبّ على وجهه خجلٌ * * فيصفو ضميري وأنسى العتابا ومن خلال الأصدقاء التي يحبّها فيهم، ولذلك اصطفاهم وأخلص لهم ودّه؛ الفطنة التي يمازجها الحياء، فلا يحتاج إلى معاتبتهم على تقصيرهم فكفى أن يلقاهم فيغشاهم الخجل، فيحجم عن ذلك العتاب..! إخوان صدق كأنّهم على سرر متقابلين في جنّة ربّ العالمين. ومن حديثه عن الصّداقة أيضا التي لولاها لآثر العزلة والتفرّغ للكتابة والتأليف قوله: ولولا أخٌ ينشر الحبَّ ما الت * * قينا على وجنتيه شُعاعا رأيتُ الهدى أن أعيشَ وحيدًا * * ولا أصحبُ الدّهرَ إلا اليراعا والصّديق الحقّ هو الذي يشعر بكلّ ما يشعر به صديقه، فيفرح لفرحه ويحزن لحزنه، ويعاف عينيه الغمضُ إن أصابه شيء، ولذلك يقول في مقطوعة بعنوان المحبّة الصّادقة:
نبّئت أنّك موجعُ * * فارتاعَ قلبي وانتفض
ما ضرّ لو كنتُ المري * * ضَ وزال عن خلّي المرضُ فهو يتمنّى أن يشفى صديقه ويمرض مكانه، إنّها المحبّة والإخلاص في صورتها المشرقة وعنفوان حالات الإيثار التي تبرهن على صدقها ومتانتها.. وقال مرّة وهو يفارق أحد أصدقائه في لوعة وحسرة شديدة: قلتُ إذ همّ صاحبي برحيل * * أتذيق الحشا عذاب الحريق أنتَ ريحانةُ الحياة إذا ما * * غبتَ عن ناظري غصصتُ بريقي معدن نقيّ وجوهر نادر يمثل الصّداقة في أسمى معانيها وأصفى صورها .. !.
* هموم الأمّة وقضاياها الكبرى في شعره.. وما أبرئ نفسي والهوى يقظ * * بين الجوانح وهو الآمر النّاهي كان أكثر ما شغل الشيخ الخضر حسين في ديوان (خواطر الحياة) هو قضايا الأمّة وهمومها الكبرى، وفي مقدّمتها القضيّة الفلسطينيّة، وقضيّة استعمار دول المغرب العربي، والأمراض الاجتماعيّة التي ابتليت بها في ليل الاستعمار الأجنبي، وغيرها ممّا يؤرّق أمّة الإسلام ويُسدل على حضارتها ستارا كثيفا، وفي ذلك يقول في تشوّف تشوبه كثير من الحسرة والألم: أيعود للشرق الحماسة والإباء * * فتعود عزّته ويبتهج العلاء؟ وقال في قصيدة أخرى بعنوان (إهابة): ردّوا على مجدنا الذّكر الذي ذهبا * * يكفي مضاجعنا نومٌ دهى حقبا ولا تعود إلى شعب مَجَادته * * إلا إذا غامرت همّاته الشّهبا وتبدو قضيّة فلسطين القضيّة المحوريّة في فكر واهتمام الشاعر، وقد خصّها بقصيدة في بداية الدّيوان كانت بعنوان (أي فلسطين)، وهي من تسعة وثلاثين بيتا، قال في مطلعها: نصب البغاة على ذراك لواء * * وكسوا مرابعَك الحسانَ دماء كنتِ الشرى وديارك الآجام لا * * يبني حواليها الجبانُ خباء وبنوك أسدٌ من يجسّ طباعها * * لم يلق إلا نخوة وإباء ويستمرّ في وصف ما كانت عليه من جلال وبهاء وحريّة وشموخ إلى أن يقول: ما لليهود استوطنوك وصاعروا * * بعد الهوان خدودهم خيلاء؟ وربّما كانت قضيّة المغرب العربي والسّعي لتحرّره من ربقة المحتلّ تأتي في المحلّ الثاني بعد قضيّة فلسطين، وهو ينظر إلى المغرب العربي أنّه وحدة واحدة وكتلة متماسكة هي جزء من الوطن العربي الكبير وجزء من الوطن الإسلامي الأكبر، وما هذه التقسيمات والفواصل الحدوديّة إلا من صنع المحتلّ البغيض، يقول حول قضيّة المغرب العربي من قصيدته (صرخة المغرب): يصرخ المغرب غيضا واحتراقا * * صرخة النّاهض للموت اشتياقا لا تلوموه إذا خاض الوغى * * ورأيتم دمه الغضّ مراقا هو يلتذّ الرّدى إذ يسكب ال * * ضّيم في أكؤسه ماءً زعاقا ويا لبراعته إذ يطوّع لفظ (أكؤس) الذي هو جمع كأس العسر الثقيل على اللّسان، فيكون في هذا السياق ملائما للمعنى متناسقا مع السياق، يستشعر به القارئ أو السّامع شدّة مرارة الضيم وثقله على القلب، ويستنهضه لدفعه وردّه ردّا عنيفا، غير آبه بما يجرّه عليه ذلك من مخاطر أو خسائر ..
والقصيدة مؤلفة من ثلاثة وثلاثين بيتا، ذكر فيها كيف يسعى المغرب العربي الكبير أن ينهض نهضته الكبرى مقتديّا بالمشرق العربي ومحاولا إحياء أمجاد الأوّلين الباهرة، وله في شأن الخلافة الإسلاميّة التي أسقطها كمال أتاتورك عام 1924م موقف يُسَجّل له في سفر التاريخ النّاصع وتذكره له الأجيال، فهو الذي يقول في قصيدته (الخلافة والانقلاب التّركي): ما خطب قوم – طالما وصلوك * * واعتزّ باسمك عرشهم – هجروك ؟ حرسوك أحقابا وحلّق صيتهم * * في الخافقين لأنّهم حرسوك كنت الوقار على وجوه غزاتهم * * والأمن إن نظروا بعين ضحوك إلى أن يقول في من انقلبوا على الخلافة وتنكروا لها: نكثوا بما نقضوه من لبناته * * عهد الرّسول وأغضبوا أهليك هذا النشوز على الشريعة مؤذن * * بغروب شمسك بعد طول سُمُوك وفي قصيدة أخرى بعنوان (طِباب الشرق) يرى أنّ المحتلّ كان حافزا للنهوض والتحدّي، على سَنَن: ولا يتّسع الأمر إلا إذا ضاق أو على نهج القول المأثور (اشتدّي أزمة تنفرجي)، يقول هذه القصيدة: يد المحتلّ تسعدنا على أن * * نروض الفكر بالسّهر الدّراك ونوقظ للعظائم رمح عمرو * * إذا أزرى رمح السِّماك تَشغل فكره وذهنه ومشاعره قضايا الأمّة وهموم العالم الإسلامي، ولا يطيب له رقاد أو يهنأ له بال وهو يرى أمته في الحضيض، فينتفض ويغضب ويسعى بكلّ سبيل لتغيير هذا الوضع المزري ساعيا في الإصلاح ومحاربة الفساد والانحراف في مسار الأمّة وبنيها، ويرفع نصحه للحاكمين عاليا مخلصا في النّصيحة دون مَلَقٍ من ورائه طمع، أو خوفٍ من خلفه نفس ضعيفة، بل هو النّصح والإباء حين يجتمعان فيقول: رزقتَ جاها فخلّ العزّ يحميه * * والعزّ حصن وتقوى الله تبنيه قلّدتَ حكما ومنهاجُ السّياسة أن * * ترعى الشّريعة فيما أنتَ قاضيه فأهمّ شيء عنده بالنّسبة للحاكم المسلم أن يرعى الشريعة، ويتقي الله في نفسه وفي الرّعيّة، وقد تمثل الشيخ الشّاعر قول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: " (الدين النصيحة ثلاثا)، قلنا لمن يا رسول الله؟، قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)" (رواه مسلم).
ويستهويه البطل الشجاع الذي يرفع لواء الجهاد ويُعلي من شأن دينه وأمّته فنراه يزور قبر صلاح الدّين الأيّوبي فيستثير فيه الأمجاد الأولى، فيقول من قصيدته (على ضريح صلاح الدّين): لو لم تُبلغك الحياةُ مناكا * * لكفاك أنّك قد قهرتَ عداك لك سيرة كادت تمثّل للنّهى * * بشرا ينافس في العلا أملاكا ومفاخرٌ يومَ استغاث الشرق من * * خطَر ألمّ ولم يجره سواكا فصلاح الدّين الأيّوبي رمز يستحضره كلّ شاعر يستلهم من الماضي ما يستثير به نخوة الأمّة ويبعث فيها الحماسة على النهوض من جديد، ومن أمجاد الحاضر وبطولاته مستلهَم آخر قريب يحسن التمثل به والإشادة، ومن ذلك مقطوعته التي قالها في بطل الرّيف المغربي المغوار، عبد الكريم الخطابي، بعد لقاء بينهما على ظهر باخرة بميناء السّويس بمصر، وقد جاء فيها: قلتُ للشرق وقد قام على * * قدم يعرض أرباب المزايا: أرني طلعة شهم ينتضي * * سيفَه العضبَ ولا يخشى المنايا أرنيها ، إنّني من أمّة * * تركت الهول ولا ترضى الدّنايا فأراني بطل الرّيف الذي * * دحر الأعداء فارتدوا خزايا وهكذا هو رجل يحمل همّ أمّة وعالم عابد عامل، قدوة، لا يكتفي بالقول بل يتبعه العمل، ولكنّه رغم كلّ ذلك يحني الرأس تواضعا، ويرى عمله لا يكاد يذكر إذا ما نظر إلى الرّقيب المتعالي الذي يرى خائنة الأعين وما تخفي الصّدور، ولذلك يُسائل نفسه ملتاعا فيقول: قضيتَ ستّين عاما في الحياة وهلْ * * قضيتَ يومين منها في رضا الله فلا يغرّنك أقلامٌ وألسنةٌ * * تقول أنّك دو علم وذو جاهِ وما أبرئ نفسي والهوى يقظ * * بين الجوانح وهو الآمر النّاهي وأقول معه مردّدًا في خوف ووجل: ( وما أبرئ نفسي والهوى يقظ ).. !!
* المحبّ لا بدّ أن يشدو أَمِنْ خفقان أفئدة رقاق * * تألّقتِ المدامع في المآقي أيّ شاعر له قلب محبّ وروح مشوقة لا يمتشق القلم ويتغنّى في مدح الحبيب محمّد صلّى الله عليه وسلّم .. ! وكذلك هذا العَلَم الشامخ الذي قضى عمره يحمل رسالة الأنبياء، ويقوم بشرف مهمّة التبليغ، تحرّكت نفسه وهاجت مشاعره بالحبّ الغامر، فمدح واستفاض في المديح.. أوّل قصيدة في الدّيوان يمدح فيها النّبي صلّى الله عليه وسلّم كانت بعنوان (تحيّة المقام النّبويّ ومناجاة الرّسول)، وقد كُتِب بين يديها أنّها أُلقيت أمام المقام النّبوي سنة 1331 ه، وكأنّه كعب بن زهير أو حسّان الشعر وقف أمام خير البشر يلقي درر الشعر، ويقدّم آيات الحبّ والعرفان، ولآلئ الوجد ذهبا وعقيان..
هي قصيدة مؤلّفة من ستة وعشرين بيتا بدأها بقوله: أحيّيك والآماق ترسل مدمعا * * كأنّي أحدو بالسّلام مودّعا وما أدمع البشرى تلوح بوجنة * * سوى ثغر صبّ بالوصال تمتّعا وقفت بمغنى كان يا أشرف الورى * * لطلعتك الحسنى مصيفا ومربعا فذا موقف لامست فيه بأخمصي * * أجلّ من الدّرّ النّضيد وأرفعا وذلك مرقى كنتَ تصدع فوقه * * بما حاز في أقصى البلاغة موقعا وراح يصف المواطن التي وقف فيها النبّي صلّى الله عليه وسلّم في المسجد النبوي، فذكر المصلّى والمنبر والحجرة المباركة، إلى أن ختمها مسلّما عليه بقوله: عليك سلام الله ما انسجم الحَيَا * * وحيّا صباح بالضّياء وودّع. أمّا القصيدة الثانية فكانت بمناسبة المولد النّبوي الشريف، ولذلك كانت بعنوان (ذكرى المولد)، وقد احتفلت به جمعيّة الهداية الإسلاميّة عام 1359 ه، وهي قصيدة على روي القاف مكوّنة من تسعة وثلاثين بيتا، كلّها لوعة واشتياق ومعانِ سامية في الحبّ النبوي والاشتياق إليه صلّى الله عليه وسلّم، وهي أجمل قصائده كلّها وأعذبها وأكثرها رقّة في مدح المصطفى واستهلّها بقوله: أمن خفقان أفئدة رقاق * * تألّقتِ المدامع في المآقي إذا أهدت يد الإقبال بشرى * * تلقتها الضّمائر باختناق كما اهتزّت غصون لاعبتها * * جَنوبٌ باعتناق وانطلاقِ وأرشفها الرّبيع ندى فطابت * * ريّاها لاصطباح واغتباقِ وهذا مطلع قويّ جدّا واستهلال يفتّت الأكباد لوعة وحبّا، ومن أروع ما جاء فيها أيضا مستلهما هذه الذكرى البهيّة: ذكرنا كيف لاح جبين طه * * وهبّ الفجرُ يؤذن بانبثاق كأنّ الفجر والميلاد جاءا * * لإجلاء الظّلام على اتّفاقِ ألا مَن مبلغ قمرا توارى * * وساطعُ نوره في النّاس باق إي وربّي (نوره في النّاس باقِ .. ) ودعوته تملأ القلوب بالخير والإشراق، وتقود أهل الأرض إلى الفلاح، إذا تبعوا وتأسّوا واستمدوا من ذلك النور واقتبسوا ..
ثم يقول بعد ذلك:
سلاما كالصّبا مرّت بروض * * ولاقتها الكمائمُ بانفتاقِ أروم مديحه وإخالُ أنّي * * سأحظى منه بالسّيل الدّفاقِ فيبهرني علاه كأنّ فكري * * توثّب وهو مشدود الوثاقِ ويعطي في هذه القصيدة كلّ ما عنده، ويظهر قدرة رائعة على التصوير الفنّي البليغ للمشاعر والأحاسيس، ويسهب في المديح حتّى تنقطع أنفاسه ويعجز القول عن المزيد، فيقول في ختام القصيدة معبّرا عن قوّة المحبّة بين الجوانب حدّ الاحتراق: هي الشّكوى يردّدها لسانٌ * * وما بين الجوانح في احتراقِ وهناك قصيدة ثالثة نضمَها في مدح الرسول صلى الله عليه وسلّم، قالها قبل هذه القصيدة بأكثر من عشر سنوات، ولكنّها جاءت في ترتيب الديوان بعدها، بسبب ترتيب القصائد حسب الحروف الأبجديّة، وحملت العنوان نفسه (ذكرى المولد النّبويّ)، مطلعها: حيّ ذاك البدرَ بالزّهر النّظيم * * واملأ الجّفن بمرآه الوسمِ إنّه يحكي محيّا المصطفى * * إذ بدا بين المصلّى والحطيم ويا للعجب .. ! إذا كان الشّعراء يشبّهون الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بالبدر ويقولون أنّه هو البدر نفسه، فإنّ الشيخ الخضر حسين جعل البدر يحاكي في ضيائه وجماله محيّا المصطفى، فهو أقلّ منه بهاء وسناءً، وصَدَق والله..
* طرائف ولطائف:
وجاء في الدّيوان بعض الطرائف واللّطائف الشعريّة التي يحسن أن نجعلها خاتمة لقراءتنا هذه، ونبدأ ببيتين بديعين قالهما حول رأيه في الشّعر بعنوان (الشّعر كالبيداء): لا خير فيمن جفّ طبعا واشترى * * بلطائف الأدباء كأسَ مدامِ والشّعر كالبيداءِ: هذا مَهِمَهٌ * * قفرٌ ، وهذا مرتع الآرام وهو رأي صائب ودقيق يبيّن فيه حقيقة الشّعر وأنّه مثل الصّحراء التي فيها القفر المجدب، وفيها المرتع الخصيب للمها والغزلان. ومن لطيف شعره أيضا البيتان اللّذان قالهما متعجبا من سائل يسأل النّاس صدقة، وهو راكب على زورق يطوف بالسّفينة التي ركبها الإمام، فقال في ذلك: عهدت الذي يسعى على متن زورقٍ * * إلى الرّزق يدلي نحوه شرك الصّيدِ وذا قانصٌ في اليمّ يرمي إلى العلا * * حبالةَ أقوال فتظفرُ بالقصْدِ لمّا أنهى الشيخ الخضر حسين كتابه (نقض كتاب في الشّعر الجاهلي) الذي يردّ فيه على طه حسين، أهدى بقيّة آخر قلم رصاص كتب به هذا الكتاب إلى المكتبة التيموريّة، مكتبة أحمد تيمور باشا، وهي أحد المعالم الثقافيّة في مصر، ولهذا الفعل رمزيّة كبيرة، وقد قال في ذلك هذه الأبيات: سفكت دمي في الطّرس أنمل كاتبٍ * * وطوتني المبراة إلا ما ترى ناضلت عن حقّ يحاول ذو هوى * * تصويره للنّاس شيئا منكرا لا تضربوا وجه الثّرى ببقيّة * * منّي كما ترمى النّواة وتزدرى فخزانة الأستاذ تيمور ازدهت * * بحلى من العرفان تبهر منظرا فأنا الشّهيد وتلك جنّات الهدى ** لا أبتغي سوى ذراها مظهرا والشيخ هنا يتحدّث على لسان القلم، ويستنطقه، ويقول أنّه شهيد ناضل في سبيل الحقّ، وقد استحقّ أن ينال الشّهادة ويدخل جنّات ربّه التي هي في الدنيا مكتبة الأستاذ أحمد تيمور باشا.
وعندما سُجن بالشّبهة والدّسيسة في عهد جمال باشا في دمشق، قال أبياتا لطيفة خلال سمر بينه وبين أصدقائه الذين سُجِن معهم، نسوقها لما فيها من الطرافة والفائدة، وقد قيل قديما ربّ ضارة نافعة، سِجن يوحي بالشعر ويُهدي للنّاس روائع القول لهو سجن محمود كسجن يوسف في مبتلاه، وتلك الأبيات هي قوله: جرى سمر يوم اعتقلنا بفندقٍ * * ضحانا به ليل وسامرنا رمس فقال رفيقي في شقا الحبس: إنّ في ال * * الحضارة أنسا لا يقاس به أنس فقلتُ له: فضل البداوة راجح * * وحسبك أنّ البدو ليس به حبسٌ وذكّرتني هذه الأبيات الجميلة بأبيات الأمير عبد القادر الجزائري التي يفاضل فيها بين البداوة والحضارة، إذ قال: يا عاذراً لامرئٍ قد هام في الحضر * * وعاذلاً لمحبّ البدو والقفر لا تذممنّ بيوتاً خفّ محملها * * وتمدحنّ بيوت الطين والحجر لو كنتَ تعلم ما في البدو تعذرني * * لكن جهلت وكم في الجهل من ضرر أو كنتَ أصبحت في الصحراء مرتقياً * * بساط رملٍ به الحصباء كالدرر وزبدة القول في ديوان (خواطر الحياة) أنّه حديقة غنّاء بحق وروض ساحر، فيه من رضاب الشعر وأزاهير القصيد ما يفتن القارئ ويسبي لبّه، فيه خلاصة تجربة الشيخ محمّد الخضر حسين وتقلّبه في الحياة داعية ومجاهدا في سبيل الحقّ، ونصيرا للدّين ثابتا مقداما غير هيّاب إلى أن لقي ربّه، وقد ترك ذخيرة أدبيّة وعلميّة تقتبس منها الأجيال، ويقتدي النّشء بمصابحها الوهّاجة ومعالمها البيّنة الواضحة.. فرحم الله الشيخ وجمعنا به في علّيين عند ربّ العالمين مع حبيبنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم.