عماره بن عبد الله رغم بلوغ الإنسان المعاصر ذروة كبرى في التقدم العلمي، لم يصل إلى السعادة المنشودة والاطمئنان الكامل، فأصبحت الحاجة ماسة إلى التربية الصوفية لتوافق بين متطلبات الأمن الحضاري والأمن الروحي. مما لا ريب فيه وصول الإنسان المعاصر إلى ما وصل إليه من تقدم علمي وتكنولوجي، مكنه من استكشاف خبايا العالم وفتح آفاق كانت مجهولة ومستعصية عليه بالأمس القريب، وساعده على تيسير جوانب عديدة من حياته المادية والمعيشية، فهل كان ذلك سببا كافيا لبلوغ السعادة المنشودة والاطمئنان الكامل؟. إن كل الدراسات والأبحاث والخطابات المتعلقة بهذا الموضوع تجمع وتؤكد على أن تحقيق ذلك مازال بعيد المنال وتعزو الأمر إلى وجود عدة معوقات وعوارض تتجلى في الأزمات الحادة والمتنوعة، والتي تعددت بشأنها مقاربات التشخيص والعلاج، وبالرغم من ذلك مازالت مستعصية عن الحل، وأبرز مظاهر هذه الأزمات ما يعيشه الإنسان المعاصر من قلق وحيرة وشذوذ ومخدرات وانتحار وإجرام وحروب وويلات أخرى متعددة ناجمة عن فراغ روحي كبير وظمأ قلبي شديد، وقد سلّم هذا الإنسان زمام أمره للعقل وحده الذي استأثر بالتدبير والاستشارة والإنجاز، وأقصى أنماطا أخرى للمعرفة، فظهرت أزمة العقل واضحة جلية أغرقت الإنسان في التشكيك وعدم اليقين، وجعلته يتخبط في مستنقع التلوث الفكري والعقدي، فتم باسم العقل إقصاء الروح وتهميشها، وطغت العقلانية بمحدودية آفاقها وقصور مداركها، مما أوقع الإنسانية في مآزق ومواقف تكاد تعصف بأسمى المعالم والمعاني والعطاءات الحضارية. وفي ظل هذا الجموح العقلي، هيمنت الحياة المادية على كل ما هو معنوي وروحي، فانعدم الأمن الروحي، وحدث الخلل الحضاري، وانفرط عقد الوئام بين مقومات الوجود الإنساني، واختل التوازن بين مطالب الجسد والروح، مما زج بالإنسانية في حياة ملؤها ثقافة الاستهلاك والاغتراب واللاهوية، وفقدت بذلك متطلبات الأمن الحضاري. أمام اتساع الهوة بين الجسد والروح، وفشل العلماء والخبراء في رأب الصدع بينهما، أصبحت الحاجة ماسة إلى وثبة روحية تعيد التوازن المفقود، وتفتح قلب الإنسان على آفاق الروح وأنوارها، وتبعث قوتها الكشفية والذوقية، ليتجاوز بذلك حدود المعرفة العقلية والأساليب المنطقية، فالحضارة البشرية لا تقوم إلا على التوافق بين الجسم والروح، وبين العقل والقلب، إذ بذلك تكتمل صفة الإنسان بالجمع بين المعرفة العقلية والعرفان القلبي، ويضمن الأخذ بجميع مناحي الحياة ومطالب الدين والدنيا في هذه الوثبة الروحية، والتي لا تتم إلا في إطار تربوي أخلاقي، تضمن الحصانة والوقاية من كل زيغ وانحراف، وتشكل بنية تحتية أخلاقية تصلح كأساس للبناء الاجتماعي المتماسك، فتكتمل بذلك أهم شروط الأمن الروحي الذي لا مناص منه لتحقيق الأمن الحضاري، وهذا ما يقوم عليه المنظور الصوفي الذي يجمع بينهما في ترابط وتكامل. لقد تبين مما سبق ضرورة الانطلاق من الأمن الروحي لتحقيق الأمن الحضاري، ويتأكد ذلك إذا علمنا أن هوية الإنسان هي أخلاقية في كنهها وطبيعتها، إذ لا إنسان من دون أخلاق، كما أن العمل بالأخلاق ركن ثابت ومتجذر في الديانات السماوية، إذ لا أخلاق بغير دين ولا دين بغير أخلاق. ومن هنا تظهر حتمية تجاوز المقاربة الثقافية الغربية للأخلاق، والتي تحصر الأخلاق في قوانين وضعية تفرض بتوجيهات فوقية وتعتمد على الحملات الإعلامية والندوات والمحاضرات، وتروم جلب المنفعة للأفراد والجماعات عن طريق فوائد ظاهرة ونتائج مغرية لكنها تنحصر في السلوك الظاهري فقط ولا تباشر القلوب والأفئدة، لذلك لا يؤمن أن تنعطف بالفساد، وما تفتأ تتعرض لأبشع أنواع الخروقات والإفساد.
إن هذا الأمن الروحي المنشود يتأتى في ظل مقاربة صوفية للأخلاق، يكون السلوك الظاهري فيها موافقا للباطن، والعمل يصدر تلقائيا عن القلب، سواء كان التزاما فرديا أم التزاما مع الجماعة، لأن الأخلاق في المنظور الصوفي تمتاز بكونها مشدودة إلى معاني روحية ربانية، وموصولة بمصدر علوي يؤمنها من الانعطاف والانحراف، ويحفظها من الغطرسة والأنانية والجشع والاغتراب، هكذا نخلص إلى المعادلة الأساسية والتي نجملها فيما يلي: لا أمن من دون أمن روحي، ولا أمن روحي من دون أخلاق، ولا أخلاق من دون دين، ولا دين إلا بالتكامل بين ماهو روحي ومادي، وماهو قلبي وعقلي، وماهو دنيوي وأخروي، وبين ماهو شرع وحقيقة، ولا يتحقق هذا التكامل إلا بتربية صوفية ممنهجة ومؤطرة. إن التربية الصوفية باعتمادها على القدوة الحية، وخوض التجربة والممارسة العملية، تفتح للقلب آفاق التزكية والرقي في مدارج المعرفة والسلوك، فيتحقق الإنسان بالإخلاص والاستقامة، ويراقب ربه ويحاسب نفسه، وبهذا يصبح صالحا لنفسه ولغيره، فاعلا في مجتمعه وفي عصره، وفعالا في عطائه وإنتاجه، وآمنا مطمئنا وأمينا مؤتمنا، وسليما مسالما.
إننا بتربية بهذه الخصائص والمرتكزات نكون أمام تربية واقية من هذا النزيف الحضاري الذي تعاني منه الإنسانية، وقادرة على تحقيق الأمن الروحي الذي يُمكّن من تبديد وتلاشي الصراع الحضاري المفتعل، وكفيلة بتصحيح الاختلالات وتحقيق التوازن النفسي والتكامل العقلي والقلبي والتوافق المادي والروحي، تلك إذن هي مرامي التربية الصوفية التي توافق متطلبات الأمن الحضاري وتحقق الأمن الروحي.