بقلم الدكتور قادة جليد أستاذ جامعي وباحث أكاديمي معسكر ربما يتعجب القارئ من استعمال هذا المصطلح الجديد، أي العقل الجزائري وربما يرى قارئ آخر بأنه دال من دون مدلول، وربما يستشف منه نزعة وطنية شوفينية بعيدة عن المنطق والواقع، وربّ سائل يتساءل: أليس العقل مفهوما إنسانيا شاملا؟، ألم يعتبره ديكارت بأنه أعدل القسمة بين البشر؟، إن هذه الأسئلة رغم وجاهتها ليست موضوع اهتمامنا في هذه الإشكالية المطروحة أمامنا للنقاش، كما أني لا أريد باستعمال هذا المصطلح أن أدخل في ذلك السجال الفكري والإيديولوجي بين محمد عابد الجابري وفتحي التريكي ومحمد أركون وجورج طرابيشي وعلي حرب وغيرهم حول شرعية استعمال مصطلح العقل العربي ومحدداته وتجلياته في الثقافة العربية الإسلامية وعوائقه الإبسيمولوجية. لا شك أن العرب جميعا يشتركون في الثقافة العربية الإسلامية القائمة على النص المركزي، وهو الوحي كمبدأ للقيم والمبادئ العليا، ولكن بفعل التراكمات التاريخية وتباعد الأزمنة الثقافية والخصوصيات الجغرافية والتاريخية واللغوية والممارسات الجماعية استطاع كل قطر عربي وكل شعب عربي أن يشكل خصوصية ثقافية خاصة به، ومن هنا كانت الشخصية الجزائرية تختلف عن الشخصية التونسية والمغربية إلخ، وإن كانت هذه الثقافات تشترك في مبادئ وقيم عامة إلا أنها تختلف من الناحية الأنثروبولوجية في التصورات والمفاهيم التي تضبط وتحدد السلوكات الفردية والجماعية والتصور العام للمجتمع « وبما أن الحياة الاجتماعية ليست واحدة، ولا على خط واحد، فمن المنتظر أن تتعدد أنواع القواعد العقلية ولنقل أنواع المنطق بتعدد وتباين أنماط الحياة الاجتماعية، من هنا كان للشعوب المسماة بدائية منطقها، وكذلك للشعوب الزراعية منطقها، ومن هنا أيضا ولنفس السبب كان لكل مرحلة تاريخية منطقها».
إن نقد العقل الجزائري الذي نعنيه هو ذلك العقل الذي نشأ وتشكل داخل الثقافة الجزائرية وبيئتها الجغرافية والسوسيولوجية، في نفس الوقت الذي عمل هو نفسه على إنتاجها وإعادة إنتاجها، وبصورة أخرى ومن ناحية إبستمولوجية الحفر المعرفي في مكونات ومحددات العقل الجزائري، أي اكتشاف القوالب الذهنية والأفكار والتصورات التي يفكر بها الإنسان الجزائري والبحث النقدي في البنى الذهنية الدفينة للثقافة الجزائرية واكتشاف الأورغانون أو الآلة المعرفية التي يحلم بها الإنسان الجزائري وينظر من خلالها إلى العالم والتاريخ ويحكم بها على نفسه وعلى الآخرين، وإذا أردنا أن نستعير لغة الدكتور محمد عابد الجابري الفلسفية في مشروعه الكبير (نقد العقل العربي) فنقول ميدان واحد لم تتجه إليه أصابع الإتهام بعد وبشكل جدي وصارم هو تلك القوة أو الملكة أو الأداة التي بها يقرأ الجزائري ويرى ويحلم ويفكر ويحاكم، إنه العقل الجزائري ذاته، إن نقد العقل الجزائري كآليات معرفية ومضمون إيديولوجي وسوسيولوجي جزء أساسي وأولي من كل مشروع للنهضة، وهل يمكن بناء نهضة بعقل غير ناهض، عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته ورؤاه؟.
لاشك أن هذه الأسئلة الإبستمولوجية تمثل الشجرة التي تغطي الغابة، وعليه فإننا نؤكد مرة أخرى بأن «موضوعنا ليس موضوعا لنا إلا بمقدار ما تكون الذات موضوعا لنفسها في عملية النقد الذاتي». إن التحليل الإيستمولوجي للعقل الجزائري وتفكيك بنيته العقلية والذهنية ضرورة تاريخية، وهذا حتى نستطيع أن نغير نظرتنا عن أنفسنا وعن الآخرين، فاكتشاف العوائق الإستيمولوجية في الذهنية الجزائرية والتفكير الجزائري مسألة مهمة وهذا لإحداث القطيعة معها ونفيها وتكريس مفاهيم وتصورات جديدة تكون بديلا للمرحلة السابقة لأنه من دون تغيير هذه الذهنيات والقوالب الجاهزة يبقى المضمون واحدا وتستمر نفس التصورات والسلوكات والممارسات لأنها تستمد شرعيتها من هذه المعتقدات والقوالب الذهنية الجاهزة لأنها تنزل منزلة المطلق «من طرف أولائك اللذين لم يكتسبوا في مدرسة المؤرخين أو مدرسة الفلاسفة الروح النقدية، أولئك الذين يحكمهم العقل السائد الذي أنتجه عقل أجدادهم الفاعل، عقل ثقافتهم التي يعتبرونها الثقافة الوحيدة والممكنة». ولكن السؤال المطروح والصعب والذي يشير إلينا قبل أن نشير إليه، هو أين نبحث عن هذا العقل الجزائري المزعوم؟، أين نجد محدداته وتجلياته؟. وللإجابة على هذا السؤال، أعتقد أن الدكتور أحمد بن نعمان، قد أجاب عليه بصورة ما في كتابه (نفسية الشعب الجزائري)، وهو دراسة أنثروبولوجية ثقافية تحاول أن تكشف عن شخصية الإنسان الجزائري وطريقة تفكيره من خلال الأمثال الشعبية والثقافة الشعبية بصفة عامة، لأن هذه الثقافة وهي ثقافة الذاكرة والتراث الشفهي والمروي والمحكي، هي الثقافة التي تعكس بحق طبيعة الإنسان الجزائري ونظرته إلى الحياة والتاريخ، فالإنسان الجزائري يجب أن نبحث عنه في الثقافة الشعبية وليس في الثقافة الرسمية، وفي ذلك يقول الدكتور أحمد بن نعمان «وبذلك تكون الأمثال الشعبية في الثقافة الجزائرية من أكثر عناصر الأدب الشعبي شمولية للفئات الاجتماعية وأكثرها تعبيرا عن نفسية غالبية أفراد الشعب وإحساساتهم وانعكاسا لما يخالج ضمائرهم وما تصبو إليه نفوسهم من نشر للقيم التي يتمسكون بها، ويرغبون في نشرها تحقيقا لما في أعماق الأفراد وأذهانهم من المعتقدات الراسخة بشأن المثل العليا التي يطمحون إلى المحافظة عليها وجعلها سائدة في الحياة العملية قولا وفعلا». فالثقافة الشعبية هي الثقافة التي يفكر بواسطتها الإنسان الجزائري ويحلم وينظر بها إلى الحياة والتاريخ، لأن «هناك في العصر الحاضر قاعدة عرفية تتحدد بموجبها الجنسية الثقافية لكل مفكر، هذه القاعدة تقتضي أن المثقف لا ينسب إلى ثقافة معينة، إلا إذا كان يفكر داخلها والتفكير داخل ثقافة معينة لا يعني التفكير في قضاياها، بل التفكير بواسطتها». ولكن ماذا يعني التفكير بواسطة ثقافة ما؟، «فالتفكير بواسطة ثقافة ما، معناه التفكير من خلال منظومة مرجعية تتشكل إحداثياتها الأساسية من محددات هذه الثقافة ومكوناتها وفي مقدمتها الموروث الثقافي والمحيط الاجتماعي والنظرة إلى المستقبل، إلى الكون والإنسان، كما تحددها مكونات تلك الثقافة، وهكذا فإذا كان الإنسان يحمل معه تاريخه شاء أم كره، كما يقال، فكذلك الفكر يحمل معه شاء أم كره آثار مكوناته وبصمات الواقع الحضاري الذي تشكل فيه ومن خلاله». وإذا كان فلاسفة النقد يؤكدون أن الفيلسوف إذا أراد أن يستحق الإحترام، فلابد أن يعلمنا عن طريق الأمثلة، فماهي محددات وتجليات العقل الجزائري من خلال ثقافته الموروثة والمنغرسة في وجدانه ومخياله الاجتماعي، والتي تحدد سلوكاته وفقا لطريقة تفكيره الخاصة؟. لاشك أن المجتمع الجزائري ومن خلال النظرة العامة تغلب عليه عقيدة الشك والتشاؤم وعقيدة التشاؤم ضد التقدم في التاريخ، ونجد أن الكثير من الأمثال الشعبية تؤكد هذه الحقيقة مثل: (الأيام الخوالي أفضل من الأيام القادمة) (وأحيني اليوم وأقتلني غدا) (وذهب ذلك الزمان بناسه وجاء هذا الزمان بفأسه) مع الكثير من الأمثلة الأخرى، وهذا ما يتنافى مع بعد من أبعاد الإنسان وهو المستقبل، وبالتالي يصبح الإنسان أسيرا للماضي يكرره باستمرار بحيث يصبح الماضي مستقبلا للحاضر، وهذه أكبر إشكالية على مستوى الوعي التاريخي والتحرر من معيقات الحاضر والماضي. وإذا رجعنا إلى مفهوم الزمن المرتبط بالنظرة الدينامية للتاريخ انطلاقا من هذه الأمثلة وأمثلة أخرى، فإننا نجد تكريس تصورات سلبية لهذا المفهوم رغم القداسة التي يحملها على مستوى القيم الإسلامية والنص المركزي (الوحي)، فالإنسان الجزائري لا يستغل الوقت كما أمر بذلك الإسلام ولكنه يقتل الوقت باستمرار، فالزمن في هذا التصور هو عدو للإنسان لأنه يحيل إلى الغدر والفقر والإبتعاد عن الزمن المثالي الذي هو الماضي، ويقال (فلان قتله الزمان) أي قتله الفقر، وفي هذا المعنى يقول الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله «فنحن في العالم الإسلامي نعرف شيئا يسمى الوقت ولكنه الوقت الذي ينتهي إلى عدم، لأننا لا ندرك معناه ولا تجزئته الفنية لأننا لا ندرك قيمة أجزائه من ساعة ودقيقة وثانية، ولسنا نعرف إلى الآن فكرة الزمن الذي يتصل إتصالا وثيقا بالتاريخ». كما أن الإنسان الجزائري في عمومه من خلال أفكاره وتصوراته وممارساته لا يعترف بنسبية الحقيقة، ولكنه يدعي احتكار الحقيقة المطلقة والمعبر عنها بالمثل الشعبي (معزة ولو طارت)، فاحتكار الحقيقة يؤدي إلى نفي الآخر وعدم الإعتراف به وتسفيه أفكاره وتشويهها، وهذه مثلا هي أحد تجليات العقل السياسي الجزائري من خلال الخطابات والممارسات التي تسوقهما كل من السلطة والمعارضة عن بعضهم البعض من خلال الخطاب والخطاب المضاد، مع العلم أننا لا نجري هنا محاكمة لثقافتنا الشعبية فهي تحمل أيضا الكثير من العناصر الإيجابية كفلسفة حياة باعتبارها تختزن حكمة الشعوب، ولكن ما يهمنا هنا هو طريقة التفكير والمعاني التي تحملها بعض القضايا المهمة المرتبطة بهذه الثقافة كفكرة الزمن والتاريخ، والتي هي قضايا مصيرية لكل شعب يريد أن يشارك في حركة التاريخ وفي صناعة الحضارة ويواجه مصيره بمبضع نقدي ومنهج علمي بعيدا عن الشعبوية والدروشة السياسية والنزعات الدونكيشوتية والأحكام الإطلاقية التي تحنط التاريخ وتبجل الأشخاص بدل الأفكار وتكبل الإنسان وإمكانياته الذاتية ولا تعطيه القدرة على الإبداع وانفتاح شخصيته وتكاملها، فنحن في الجزائر اليوم على المستوى التاريخي نعيش كما يقول الأستاذ مالك بن نبي مرحلة (إنسان ما بعد الموحدين)، أي ما بعد الحضارة «فإذا نظرنا إلى هذا الوضع نظرة اجتماعية، وجدنا أن جميع الأعراض التي ظهرت في السياسة أو في صورة العمران، لم تكن إلا تعبيرا عن حالة مرضية يعانيها الإنسان الجديد –إنسان ما بعد الموحدين- الذي خلف إنسان الحضارة الإسلامية والذي كان يحمل في كيانه جميع الجراثيم التي سينتج عنها في فترات متفرقة جميع المشاكل التي تعرض لها العالم الإسلامي منذ ذلك الحين، فالنقائص التي تعانيها النهضة الآن، يعود وزرها إلى ذلك الرجل الذي لم يكن طليعة في التاريخ، فنحن ندين له بمواريثنا الاجتماعية، وبطرائقنا التقليدية التي جرينا عليها في نشاطنا الإجتماعي، ليس ذلك فحسب، بل إنه يعيش الآن بين ظهرايينا، وهو لم يكتف بدور المحرك الخفي الذي دفعنا إلى ما ارتكبنا من خيانة لواجبنا وأخطاء في حق نهضتنا، بل لقد اشترك معنا في فعلنا، لم يكتف بأن بلغنا نفسه المريضة التي تخلقت في جو يشيع فيه الإفلاس الخلقي والاجتماعي والفلسفي والسياسي فبلغنا ذاته أيضا ». إن التحرر من هذا الإنسان المريض أي إنسان ما بعد الموحدين مرتبط أساسا بضرورة الوعي بهذه الحقيقة التاريخية، وهي أننا كجزائريين نعيش اليوم تاريخيا وزمانيا في القرن الواحد والعشرون ولكن على المستوى الثقافي والفكري والذهني نعيش بقوالب قرون غابرة وأزمنة ثقافية تجاوزها التاريخ المعاصر وأصبحت من أخطاء الإنسان في الماضي، فلماذا تعلم الغرب والآخرون من أخطائهم ولم نتعلم نحن من أخطائنا؟ «وطالما ظل مجتمعنا عاجزا عن تصفيته هذه الوراثة السلبية التي أسقطته منذ ستة قرون، وما دام متقاعسا عن تجديد كيان الإنسان طبقا للتعاليم الإسلامية الحقة ومناهج العلم الحديثة، فإن سعيه إلى توازن جديد لحياته وتركيب جديد لتاريخه سيكون باطلا عديم الجدوى».
ولا يكون ذلك في نظرنا إلا من خلال فتح ورشات لنقد العقل الجزائري كلحظة تأسيسية ونقطة إرتكاز في كل أبعاده المختلفة: العقل المعرفي الإبستيمولوجي والعقل السياسي والعقل الأخلاقي والعقل الجمالي والعقل التاريخي. إن نقد الأداة أي العقل الجزائري وتكييفه مع المعطيات التاريخية الجديدة ومبادئ العلم الحديث والقيم الإنسانية الحقيقية من شأنه أن يدخل الجزائريين في حداثة تاريخية جديدة ومتجددة قائمة على العقلانية والديمقراطية والإيمان بالإنسان والنقد المستمر للذات والنظرة التاريخية المتطلعة إلى المستقبل. ويبقى الهدف ليس النقد من أجل النقد «بل من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي والهدف: فسح المجال للحياة لكي تستأنف فينا دورتها وتعيد فينا زرعها ولعلها تفعل ذلك قريبا» إنه مشروع كبير ويستحق منا كل جهد. [email protected]