بقلم الدكتور قادة جليد أستاذ جامعي وباحث أكاديمي معسكر إن الإنسان كائن تاريخي، بمعنى أنه يعيش في علاقة مع الآخرين، فالإنسان لا يستطيع بمفرده أن يبني حضارة أو تاريخا ففاعلية الإنسان في التاريخ مرتبطة أساسا بتلك العلاقة الجدلية بين الإنسان والمجتمع في إطار شبكة العلاقات الاجتماعية، فالإنسان ليس جزيرة منعزلة يكفي نفسه بنفسه وليس طاقة مجردة من كل نشاط اجتماعي أو بعد تاريخي إذ «ليس في استطاعة الإنسان أن يحبس نفسه في قمقم فإن قطب الأنا لا يستطيع أن يعيش إلاّ في علاقته بقطب الغير، حقا إن المرء يولد بمفرده ويموت بمفرده ولكنه لا يحيا إلا مع الآخرين وبالآخرين وللآخرين». ومن هنا كان التساؤل المشروع: كيف يصبح الإنسان فاعلا في التاريخ، وكيف يصبح صانعا للحضارة وكيف ينتقل من الحالة السلبية الخاملة إلى الحالة الإيجابية الفاعلة؟ يرى الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله أن «مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها». فالمشكلة إذا هي فهم أحداث التاريخ ومعرفة السنن التاريخية التي تنتظم حركة الشعوب والمجتمعات، فالتاريخ ليس صدفا عمياء ولكنه نتيجة لأسباب أي أنه حركة مرتبطة بهدف أو غاية وتخضع لمنطق التاريخ ذاته وهذه الحقيقة تصدق على جميع الشعوب فلا تخص شعبا دون آخرا أو زمانا دون آخر ولا تجامل أمة دون أخرى فمن الملاحظات الاجتماعية واستنادا لتاريخ الحضارات أن للتاريخ «دورة وتسلسلا فهو تارة يسجل للأمة مآثر عظيمة ومفاخر كريمة وهو تارة أخرى يلقي عليها دثارها ليسلمها إلى نومها العميق، فإذا ما أخذنا هذه الملاحظة بعين الاعتبار تحتم علينا في حل مشكلاتنا الاجتماعية أن ننظر مكاننا من دورة التاريخ وأن ندرك أوضاعنا وما يعتورنا من عوامل الانحطاط وما ننطوي عليه من أسباب التقدم فإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط في حياتنا». إن البحث في الإنسان لا يعني التفكير بمنطق الفلسفات الوجودية أو تلك الفلسفات المريحة التي تبحث عن الخلاص الفردي والسلام الذاتي والتي جعلت من الفرد عالما قائما بذاته منغلقا على نفسه يبحث عن مصيره الشخصي بعيدا عن مصير الجماعة وموقعها من حركة التاريخ أو كما قال الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر (الآخر هو الجحيم) إن البحث في الإنسان الذي نعنيه هو الإنسان الذي يضيف إلى مجتمعه بما يحقق الرقي والتقدم على الصعيد الاجتماعي، أي الإنسان الذي يتطلع إلى المستقبل في إطار رسالة يعي مسؤوليتها وأهدافها ومنهجها وفي إطار قيم ومبادئ توجهه وتضبط سلوكاته الفردية والجماعية، إن الدخول إلى التاريخ وبالتالي معركة الحضارة يتطلب الرؤية النقدية الذاتية في إطار التفاعل مع الآخر وهذا من أجل تقييم أوضاعنا الراهنة والتطلع إلى ما هو قادم «إننا نرى في حياتنا اليومية جانبا كبيرا من اللافاعلية في أعمالنا إذ يذهب جزء كبير منها في العبث والمحاولات الهازلة، وإذا ما أردنا حصرا لهذه القضية فإننا نرى سببها الأصيل في إفتقادنا الضابط الذي يربط بين عمل وهدفه، بين سياسة ووسائلها، بين ثقافة ومثلها، بين فكرة وتحقيقها، فسياستنا تجهل وسائلها وثقافتها لا تعرف مثلها العليا، وإن ذلك كله ليتكرر في كل عمل نعمله وفي كل خطوة نخطوها». إن المشكلة التاريخية بالنسبة إلينا كجزائريين اليوم هي مشكلة هذه الذات العميقة التي تكلست فيها ذهنيات وأفكار وسلوكات ساهم الاستدمار الفرنسي في تعميقها وتعميمها أبعدتنا عن حركة التاريخ وبوصلته الحقيقية وأصبح الإنسان الجزائري ينظر إلى التاريخ نظرة مقلوبة ومعكوسة «إن جوهر المسألة هو مشكلتنا العقلية ونحن لا زلنا نسير ورؤوسنا في الأرض وأرجلنا في الهواء وهذا القلب للأوضاع هو المظهر الجديد لمشكلة نهضتنا». ومن هذا المنطلق يجب أن نطرح بعض الأسئلة الاستشرافية لحصر الموضوع وتصوره بدقة انطلاقا من الدورة الحضارية التي نحن جزء منها، أي دورة الحضارة العربية الإسلامية والذي يعتبر الدين الإسلامي ركيزة أساسية في وجودها ووجدانها وهويتها التاريخية، من أين تبدأ حركة التاريخ وكيف تتحقق هذه الفاعلية التاريخية لدخول بوابة الشعوب المتحضرة؟ إن كل المعطيات التاريخية والوجودية وتاريخ الحضارات المتعاقبة تشير إلى أن نقطة البدء في التاريخ هي الإنسان نفسه، فمتى آمن الإنسان بفكرة أو مبدأ وأخضع حياته للتغيير انطلاقا من هذا المبدأ فإن الأوضاع سوف تتغير انطلاقا من أهمية وقيمة هذه المبادئ التي توجه نظرته إلى الكون والتاريخ، وبلغة الإنسان الجزائري المسلم نؤكد على هذه الحقيقة مع الأستاذ مالك بن نبي وهي «يجب على المسلم الذي يضطلع برسالته أن يفكر في إعجازه وإعجازه لا يتأتى إلا بتحقيق شرط جوهري وهو تغيير ما بنفسه وتغيير ما في محيطه مصداقا للآية الكريمة (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ولا يمكنه أن يغير شيئا في الخارج إن لم يغير شيئا في نفسه، وحينما نقول هذه الكلمة نقولها باعتبارها علما ولا نقولها فقط تبركا بآية، نقولها علما ونعلم مقدارها من الصحة العلمية، لا يستطيع مسلم أو غير مسلم أن يغير ما حوله إن لم يغير أولا ما بنفسه فهذه حقيقة علمية يجب أن نتصورها كقانون إنساني وضعه الله عز وجل في القرآن كسنة من سنن الله التي تسير عليها حياة البشر» مع التذكير والتأكيد أن القرآن الكريم لا يلغي التجربة البشرية ولا يطرح نفسه بديلا عن مواهب الإنسان وقدراته الخلاقة في ميادين المعرفة والتجربة وضرورة الاستفادة من الثقافات والحضارات الأخرى ولكن القرآن الكريم يطرح نفسه كطاقة روحية موجهة للإنسان ومفجرة لطاقاته الداخلية ومحركة له في المسار الصحيح وبناء على قيمة وقداسة الأهداف والقيم التي توجهه نحو حركة التاريخ، وإذا كانت نظرية الإنعكاس الماركسية ترى أن البنية الفوقية هي انعكاس للبنية التحتية بمعنى أن الأفكار والثقافات والمعتقدات هي انعكاس للإقتصاد وحركته في التاريخ فإن هذه الآية «تتحدث عن علاقة معينة بين القاعدة والبناء العلوي، بين الوضع النفسي والروحي والفكري للإنسان وبين الوضع الإجتماعي، بين داخل الإنسان وخارج الإنسان، فخارج الإنسان يصنعه داخل الإنسان، فإذا تغير ما بنفس القوم تغير ما هو وضعهم وما هي علاقتهم وما هي الروابط التي تربط بعضهم ببعض» وهذه الفكرة هي التي يسميها مالك بن نبي في مشروعه الكبير مشكلات الحضارة بفكرة التوجيه إذ يقول «لا بد لنا قبل كل شيء من تعريف فكرة التوجيه فهي بصفة عامة قوة في الأساس وتوافق في السير ووحدة في الهدف فكم من طاقات وقوى لم تستخدم لأننا لا نعرف كيف نكتلها» فالقرآن الكريم بصفة خاصة والإسلام بصفة عامة كقيم ومبادئ عليا يفجر المحتوى الداخلي للإنسان ويعطيه دفعة على صعيد التقدم الإجتماعي والتاريخي والحضاري «وهذا الجهاز حين يتحرك يحدد مجرى التاريخ نحو الهدف المنشود، وفي هذا تكمن أساسا فكرة توجيه الإنسان الذي تحركه دفعة دينية وبلغة الاجتماع الذي يكتسب من فكرته الدينية معنى الجماعة ومعنى الكفاح». إن حركة التاريخ حركة غائية مرتبطة بأفكار مستقبلية لأنها حركة هادفة لها علة غائية متطلعة إلى المستقبل «فالمستقبل هو المحرك لأي نشاط من النشاطات التاريخية، والمستقبل معدوم فعلا، وإنما يحرك من خلال الوجود الذهني الذي يتمثل فيه هذا المستقبل، إذن الوجود الذهني هو الحافز والمحك والمدار لحركة التاريخ وهذا الوجود الذهني يجسد من ناحية جانبا فكريا وهو الجانب الذي يضم تصورات الهدف وأيضا يمثل من جانب آخر الطاقة الإرادة التي تحفز الإنسان نحو هذا الهدف وتنشطه للتحرك نحو هذا الهدف، إذن هذا الوجود الذهني الذي يجسد المستقبل المحرك، هذا الوجود الذهني يعبر بجانب منه عن الفكر وفي جانب آخر عن الإرادة وبالامتزاج بين الفكر والإرادة تتحقق فاعلية المستقبل ومحركيته للنشاط التاريخي على الساحة الإجتماعية» إن هذه القاعدة المعرفية والتاريخية يمكن تطبيقها على تاريخ الإسلام نفسه، فلقد استطاع الإسلام كمبادئ وطاقة روحية معبئة أن ينقل العرب من اللاتاريخ إلى التاريخ، فقد كانوا قبائل متناحرة مع بعضها البعض بعيدا عن مفهوم الدولة أو الأمة، ولكن عندما تشربوا قيم الإسلام ومبادئه وتطلعاته المستقبلية استطاعوا أن يتحولوا إلى أمة مبدعة وقائدة ثم إلى حضارة بسطت ضلالها على الإنسانية والعالم ولا زالت آثارها قائمة إلى اليوم «وبهذا صح القول أن المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس لحركة التاريخ والبناء الاجتماعي العلوي لكل ما يضم من علاقات ومن أنظمة ومن أفكار وتفاصيل هذا البناء العلوي في الحقيقة مرتبط بهذه القاعدة بالمحتوى الداخلي للإنسان ويكون تغيره وتطوره تابعا لتغير هذه القاعدة وتطورها، فإذا تغير الأساس تغير البناء العلوي وإذا بقي الأساس ثابتا بقي البناء العلوي ثابتا» وعلى هذا الأساس يمكننا أن نقول إن قيمة الفرد والمجتمعات والشعوب تتحدد بقيمة الأهداف والمبادئ التي تعيش من أجلها في المستقبل والإنسان الذي يفتقد إلى الأهداف والطاقة الروحية التي تفجر طاقاته في مختلف مجالات الحياة هو إنسان بدون أفق وبدون مستقبل، هو إنسان ثابت جامد يكرر نفسه باستمرار، بدل أن يصنع التاريخ يعيش متفرجا على هامش التاريخ ومقلدا للآخرين حتى تأذن سنن التاريخ بدورة حضارية جديدة لأنه كما قال الأستاذ مالك بن نبي «يجب أن ينتهي التاريخ في نقطة ما كي يتحدد التاريخ من نقطة جديدة » وحركة التاريخ وقوانين الحضارة لا تستثني شعبا دون آخر ولكنها قوانين عامة فإما أن نكون أو لا نكون وفي البدء كان الإنسان.