وهو على وشك تركه قصر الإليزيه بعد انقضاء خمس سنوات عجاف، ترأس فرانسوا هولاند (François Hollande) ما نرجو له أن يكون آخر تجمع تأبيني للجمهورية لإحدى ضحايا الإرهاب، وإذ هو ترأس الكثير والعديد من مثل هذه التجمعات، وكأنه يتقنها أكثر من غيرها منذ خطابه في البورجي (Bourget) في جانفي 2012 حيث كان مرشحا للرئاسيات، وخطاب الباستيل (La Bastille) يوم 6 ماي من السنة نفسها إثر فوزه بها. بالفعل، إن ما نلاحظه هو أن أحسن ما عرفت فرنسا فعله خلال عهدته هو الإطراء على أرواح ضحايا الإرهاب، وفي الوقت نفسه كانت تزف لنفسها ثناء لعظمتها، محاولة بعث شعلتها من جديد وهي التي خفتت في عهدته. وأنا أتابع على الشاشة مراسم العزاء الوطني، والتي كانت محكمة ككل مرة، والترحم على روح الشرطي المقتول في الشان إليزي (Champs-Elysées)، راودتني فكرة وهي أن تلك المراسم قد جمعت في المكان نفسه والشعور نفسه (أو ما يبدو على أنه الشعورنفسه على وجوه الحاضرين)، ضحايا التراجيديا والمسؤولين غير المباشرين عليها، وبدرجات متفاوتة، وأقصد رجال السياسة اليمينيين واليساريين الذين حكموا البلاد منذ عقود ولديهم مسؤولية ولو بكونهم لم يتمكنوا من توقيفها ومنعها، أو ليس الحكم هو توقع الأحداث؟. من الأكيد أن الإرهاب الذي يضرب فرنسا في السنوات الأخيرة له علاقة مع الإيديولوجية الإسلاموية، لكنه يحمل أيضا نوعا من الثأر. إن الإرهاب يعود إلى ما قبل ظهور الدولة الإسلامية (داعش) بعقود كثيرة مثل قضية كلكال. ويبدو من دراسة مسارات الإرهابيين وكأنهم خرجوا من صقل واحد، فغالبا ما ينحدرون من صفوف المهاجرين، وهم منحرفين لهم ماضي إجرامي قد يخف وقد يثقل، وأناس غير مندمجين اجتماعيا ومهمشين، وفرنسيين يدخلون في الدين الإسلامي بطريقة سطحية… وهنا تكمن مسؤولية سياسات اليسار واليمين خلال الخمسين سنة الماضية فيما يخص إدماج المهاجرين في المجتمع الفرنسي، وهي العملية التي شابها التمييز العرقي والثقافي وتجاوزات البوليس، وعدم القيام بالإصلاحات الاقتصادية التي كانت لتنقص من مستويات البطالة والعجز المالي، ولو تم ذلك لكانت بين أيدي السلطات العمومية أكثر إمكانيات للتخفيف من الإشكاليات الاجتماعية. إن العجز التجاري لفرنسا يبلغ 48 مليار يورو، والديون العمومية تمثل 96 بالمائة من دخلها القومي، بينما ألمانيا تملك فائضا تجاريا يبلغ 300 مليار يورو، ونسبة المديونية العمومية لديها 71 بالمائة من دخلها القومي. فرأينا كيف وقف جنبا إلى جنب في تلك اللحظات الأليمة سوء حظ الضحايا ومسؤولية رجال السياسة ببراءة تذكرنا بروح المسيح السمحة، وكان ينم ذلك الشعور الجماعي الذي يجمع الفرنسيين عن وحدة مقدسة تظهر في أوقات القرح، لكنها تتلاشى سريعا عند هبوب رياح المنافسة السياسية، حيث يعود كل واحد ممن يحضرون تلك المراسم المهيبة بمجرد تفرقهم إلى معاقلهم السياسية والإيديولوجية وينتظرون العملية الإرهابية التالية والضحايا والمراسم، والوجوه الحزينة… و .. و.. أبرزت الحملة الرئاسية التي تجري حاليا كل هذه المشاكل بشكل جد واضح، وبانتفاضة انتخابية واحدة غير مسبوقة في تاريخه، رمى المجتمع الفرنسي السياسي بالتيارين اليميني واليساري على السواء في دوامة، محملا إياهما تسيير الاقتصاد المهلهل، والمواقف الفرنسية خلال الأزمات الدولية وتصاعد الإرهاب على أرضها، ومعبرا عن غضبه عليهما بعد أن تركهما يتداولان على الحكم في الجمهورية الثالثة والرابعة والخامسة. كان لنتائج الدور الأول يوم الأحد الماضي، على الساحة السياسية الفرنسية الوقع نفسه الذي أحدثه "الربيع العربي" على الأنظمة العربية، حيث أنه تم تفكيك الإطار المؤسساتي (الثنائي يمين- يسار) الذي كان ينظم اللعبة التقليدية وأعاد الوجوه البارزة التي تمثلها إلى بيوتها. لقد تنبأ جون لوك ميلونشون (Jean-Luc Mélenchon) بهذا التيار الصاعق وصرخة "إرحل"، وهو بالفعل ما حدث. وفي ومضة، اختف كبار السياسيين واضمحلت الوجوه البارزة وحتى بعض من كانوا يبدون وكأنهم حاملين رسالة إلهية ومبعوثون من أجل خلاص المجتمع الفرنسي، كل هؤلاء اختفوا أو تراجعوا وبقي اليمين واليسار والوسط في يتم ومن دون قيادة. وإذ نحن نعرف نتائج "إرحل" في ليبيا واليمن ومصر وسوريا، فإننا لا ندري ماذا سيحدث في فرنسا، حيث فتحت الآن مرحلة تحمل الكثير من الحيرة والخبايا بعد انهيار اليمين واليسار: ما هي الأغلبية التي ستحكم البلاد ومن تكون المعارضة؟، هذا ما سنعرفه في الأسابيع المقبلة. هاهم إذن المنتخبون الفرنسيون، بعد تذوقهم علقم الخيبة من سياسييهم، يقررون في خلوة الاقتراع، الخروج عن عاداتهم التي ألفوها، وعن روتين اليمين – يسار التي انغمسوا فيها، ودخلوا طرائق وعرة غير معبدة ولا يعرفونها حق المعرفة ولا يعرفون حتى إلى أين تؤدي، فانتخبوا أقصى اليمين وأقصى اليسار وأقصى المجهول، وها هم إذن مخيرين بين رجل جديد من دون ماضي سياسي ومن دون برنامج واضح، اقتحم الحياة السياسية كما يخترق النيزك الكرة الأرضية، وبين مرشحة يعرفونها أحسن معرفة لكنها تحمل أفكارا لا تستهوي إلا الأقلية، وها هم إذن، في غالبيتهم، يضطرهم الواقع ومن غير أن يتوقعوه أو يريدونه، للاصطفاف وراء شبل خرج من عالم بنوك الأعمال، وهو الوسط المهني الذي يثير الكثير من الشكوك والظنون. عندما كنت أعلق على الأحداث خلال "الربيع العربي" في جريدة "لوسوار دالجيري" (Le Soir D'Algérie) بين 2011 و2013، كنت قد عنونت بعض مقالاتي بعناوين ("علبة باندورة"، "مصباح علاء الدين"، "استيقاظ سحري…") تنم عن الجو النفسي السائد آنذاك بين الشعوب، واليوم لدي الشعور نفسه أمام ما أراه في فرنسا، بلد ديكارت والأنوار، بأنهم يعيشون في جو سحري. لكل زمن طقوسه وعاداته، إننا اليوم نعيش زمن المال في الاقتصاد، وهو مرض أتت به العولمة، لكن هناك ماهو أخطر من ذلك، وهو المال في السياسة، وهو ما نلاحظه في عدة بلدان أوربية ومؤسسات عالمية سوستها المالية العالمية وشربت دمها مثلما يفعل دراكولا، حيث أصبح رجال بنوك رؤساء حكومة ومقررين كبار داخل مؤسسات متعددة الجنسيات والأطراف أو مؤسسات الاتحاد الأوربي. هذا ما رأيناه وعشناه مع انتخاب دونالد ترامب (Donald Trump) في الولاياتالمتحدة، وهو ما نلاحظه عندنا في الجزائر لكن بأقل لباقة، حيث بدل العملات الورقية والصفقات في البورصات، نحن نستعمل "الشكارة" المصنوعة من "الخيشة" أو البلاستيك الأسود، والمال فيها أكثر قذارة وسوادً، وهي العملة المتداولة من أعلى هرم المجتمع إلى أسفله وفي الحياة السياسية. وأمام الاستقبال "المسحور" الذي خص به بعض الفرنسيين إمانويل ماكرون، الذي حسبوه مسيحا جديدا أتي وفي يده مصباح علاء الدين لحل مشاكلهم، وانتخابهم الميكانيكي الذي وضعه في صدارة المتنافسين في الدور الأول، يحق لنا أن نتساءل حول ما ستحمله الوضعية الجديدة هذه، هل هو تنوير للطريق؟، أم هو مستقبل مظلم؟، أم هي حلول – معجزة؟، هل هو خير أم شر؟. ها هي اليوم فرنسا منغمسة في "الزمن الديني" بعد أن كانت تعوم في "الزمن السياسي" و"الزمن القضائي". بالفعل، هناك الكثير ممن "يرون" في إيمانويل ماكرون صورة المسيح كما رسمتها المخيلة المسيحية، أي رجل في الثلاثين من العمر أشقرا ذي البشرة البيضاء، بينما كان في حقيقة الأمر أسمرا ذي الشعر الأسود أجعدا، ويسمعون مبهورين وهو يحمل البشرى في بلد نال منه الذهول مما يحدث له، ويتلمسون في تقاسيم وجهه الطيبة وعود مستقبل جميل، وهكذا، ومن دون أن يعلموا من أين أتى وما فحوى رسالته وفي أي اتجاه توجد الأرض الموعودة، آمن به 24 بالمائة منهم وبايعوه منذ الدور الأول. لم يفز إيمانويل ماكرون باللوتو من جراء الصدفة، بل كان قد راهن على حساب أكدت له مختلف عمليات صبر الآراء في البلاد أنه الحساب الوحيد الممكن. كان رهانه، وتحديه، واستراتيجيته، أن يمر من عقبة الدور الأول في مواجهة مارين لوبان (Marine Le Pen)، أو جان لوك ميلونشون. لم يكن يهمه أن يتصدر الترتيب لأنه كان يدري أن الفوز بعد ذلك سيكون مضمونا ورياضيا وميكانيكيا، لا شيء سيقف في وجهه، لم يكن يسعى إلى الفوز بأكبر قدر من الأصوات بل كان يكتفي بربع أصوات المنتخبين التي تنبأت بها عمليات صبر الآراء، كان يسعى فقط إلى التواجد في الدور النهائي والاتكال بعد ذلك على "مفعول الرافعة" الذي يعرفه أصحاب البنوك. أيمانويل ماكرون (Emmanuel Macron) كان بالتأكيد الوحيد الذي تصور سيناريو مثل هذا، لأنه لا يمكن أن يخرج من عقل رجل سياسي "كلاسيكي". كم غامر من قبله رجال وشخصيات، على غرار فرانسوا بايرو وريموند بار و ألانمادلين ونيقولا ديبون أينيون (François Bayrou, Raymond Bar, Nicolas Dupont-Aignan, Alain Madelin) من أجل الفوز بالرئاسيات بمفردهم، خارج "الجهاز". كلهم انتهت بهم المغامرة على الصخور الوعرة، ولنا في الوقت نفسه الذي تقدم فيه أيمانويل ماكرون، مثالا عن رجل سياسي آخر، هو هنري قوينو (Henri Guaino)، المستشار السابق لساركوزي، وممثل منطقة لي يفلين (Les Yvelines) في البرلمان وعضو في حزب الجمهوريين، لم يستطع حتى جمع 500 إمضاء للدخول في المعركة، علما أن عدد المنتخبين الذين يمكنهم الإمضاء يبلغ حوالي 40.000 منتخب. هل هو أقل ذكاء من ماكرون؟، أو أقل تجربة؟، أو أقل شهرة؟… إنه السؤال من غير جواب… كان لرجل البورصة والمداولات المصرفية دون غيره أن ينطلق في عملية مثل هذه وينجح فيها دون عناء شديد. وإيمانويل ماكرون خريج هذه المدرسة، وهو كذلك بطبعه أيضا، إنها مهنة يشترى فيها كل يوم سندات ويبيعها لصالح المؤسسة التي يمثلها سواء كان بنكا أو بورصة أو صندوق استثمار، فعمله يكمن أساسا في تحليل التغيرات المالية والمقايضة والتنبؤ بارتفاع الأسعار أو انخفاضها، إنها مهنة مرتكزة على المغامرة والصدفة واستغلال الفرصة السانحة والحيلة، يشتري لدى اليمين ويبيع لليسار بعد أن يستعير شيئا من الوسط، ويغذي الجميع بالوعود، لا يلتزم بأكثر مما يراه سهل المنال في المدى القريب، ولا يريد أن ينتظر النتائج طويلا بل يريدها سريعة والمداخيل وافرة والفائدة فورية. لقد قام أيمانويل ماكرون بكل شيء خلال سنة واحدة، حيث خرج من الحكومة وأسس حركته، ونادى الشبيبة التي لم تهيكل سياسيا "للمشي" وراءه، وكانت المسيرة أقل عناء وأقصر من تلك التي قام بها ماو تسي دونغ (Mao Tsé Tong)، فكانت تسمية حركته تذكرة لبداية اسمه (E.M)، وانطلق في اكتساح الساحة السياسة الفرنسية من طرفها اليميني إلى طرفها اليساري. ومن لديه مثل هذه الطبيعة والمسار المهني ومثل هذه الرغبة في الوصول سريعا والنجاح، لا يقبل أن يدور لمدة عقود وعقود في دهاليز البرلمان، والشخير في إحدى كراسي مقرات البلديات أو الدوائر… لا بل من له هذه الطبيعة يفكر كيف يستثمر القليل ويفوز بالكثير كل يوم، هذه هي ديانة المصرفي. وهذا ما نراه في مساره القصير حيث ذهب، بعد فترة قصيرة قضاها لدى بنك روثشيلد (Rothshild)، وفترة تدريبية قصيرة هي الأخرى في الإليزي والحكومة، ذهب متخليا عن هولاند الذي كانت شهرته تتناقص يوما بعد يوم مهما فعل ومهما قال، وفي خضم ذلك أخذ منه وزير الدفاع والوزير الأول وأعاد إلى الحياة ولو بالكلمة أصواتا غبرت مثل الأمين العام السابق للحزب الشيوعي، وضم إليها أصواتا أخرى من الجهة الأخرى للسياسة مثل كوهن- بنديت (Cohn-Bendit)، وها هو ذا، بعد سنة فقط صنع سوقا وهو بصدد التحكم فيه، فكيف سيفعل وماذا سيفعل "بسوقه" هذا؟. إن بيع السندات والأوراق المالية من بين المهن التي قد تأخذك في كل الاتجاهات وتقود بك إلى كل شيء، لكن شريطة أن تعرف كيف تخرج منها كما قيل في موضع مهنة أخرى. الكل يعرف كيف أنها أدخلت جيروم كيرفييل (Jérôme Kerviel) السجن بعد أن كبد خسائر طائلة للبنك الذي كان يعمل به، واليوم هي المهنة التي ستوصل أيمانويل ماكرون إلى الإليزيه، كيف سيخرج من ذلك القصر، وماذا سيكون مصير فرنسا بين يديه اليافعتين؟. علينا الاعتراف بأن الحظ كان سخيا مع إيمانويل ماكرون لأنه لو كان في الدور الثاني مع فرانسوا فييون (François Fillon) بدل مارين لوبان لكانت حظوظه أقل صلابة، لكن هذا الأخير ورغم كون برنامجه كان الأكثر دقة وواقعية والأحسن هيكلة، إلا أنه كان الأقل شعبية، ولزيادة الطين بلة ظهر الرجل على حقيقته التي كان البعض يتحدث عنها من قبل أي كونه مساعدا جيدا، لكن بمجرد أن يترك "لرأيه" يصبح خطيرا لنفسه ولمصلحته. وبالفعل أظهر أنه عدو نفسه وعائلته السياسية بمجرد أن أصبح مرشح الجمهوريين والوسطيين، حين قال جملة غير لائقة بقائد في رأيي: "إن هذا الفوز هو فوزي أنا أولا"، وحسب ما أعرف، لم يتوقف عند هذه الجملة أحد من المعلقين الفرنسيين، كما لم يتوقف أحدهم أيضا، دائما حسب معرفتي، على جملة ثقيلة قالها ألان جوبي (Alain Juppé) لفرانسوا فيون: " أن يكون لك ماضيا قضائيا أحسن من أن يكون لك مستقبلا قضائيا"، كان ذلك بعدة أشهر قبل أن تفجر جريدة "لوكانار أونشيني" (Le Canard enchaîné) القضايا التي ستقضي عليه نهائيا. كان ديغول (De Gaule) يقول في 1966 إن السياسة الفرنسية لا تصنع في البورصة، لكن ها هم الفرنسيون في الوضعية ذاتها، لقد سجلت بورصة باريس ارتفاعا بعدة نقاط بعد التعرف على نتائج الدور الأول، وتلتها بورصات العالم في حركة نشيطة وفرحة. خلال ثلاثين سنة، إنها المرة الثانية التي أكتب فيها حول السياسة الداخلية لفرنسا، وكان المقال الذي نشرته بعنوان " عواقب الديمقراطية" في جريدة ألجيري أكتياليتي (Algérie Actualités) بتاريخ 03 أكتوبر 1985. وأمام المشهد ذاته، كان بإمكاني استعمال العنوان نفسه، لكن ألست مثل المستشفى الذي يهزأ من الصدقة التي تقدم إليه؟، هل يحق لنا، نحن الجزائريون، أن نهزأ من وضعية الفرنسيين ونحن الذين نصنف في ذيل الأمم وراء كوريا الشمالية التي يحكمها الإمبراطور كيم جونع أونغ (Kim Jong Un)، وخلف الزيمباوبي الذي انقض عليه الشامان روبيرت موغابي (Robert Mugabe)؟، بالطبع لا، ليس لدينا الحق، لكن بعض الأوضاع تجعلنا لا نعرف ماذا نفكر بسبب تناقضاتها.