عندما اكتشف الرأي العام الفرنسي، وبعده كل العالم، إيمانويل ماكرون (Emmanuel Macron)، بعد تعديه عقبة الدور الأول للرئاسيات، كان لذلك أكثر وقعا من اكتشاف العلماء في أواخر القرن التاسع عشر في منطقة الدردون (فرنسا) ‘انسان كرومانيون" البدائي الذي لديه مواصفات "الإنسان الحديث" (homo sapiens). لم يحدث في التاريخ أن رأينا مثل هذا المسار السريع الذي ميز مسار ماكرون. لقد مر من أتم مجهول إلى أعلى تتويج، من مسقط رأسه، مدينة "لوتوكي" (Le Touquet) إلى قصر الإليزي(Elysée)، بسرعة "نيوترينات" (وهي جسيمات تتنقل بسرعة الضوء) لا يوقفها أي حاجز في الكون. لم يشهد التاريخ مثل هذا المشهد في مسارات الملك والأباطرة والقياصرة أو الرؤساء حيث وجد نفسه خلال سنة من الزمن ومن غير تحضير ولا سابق تاريخ نضالي أو مرجعيات. حتى أن البابا فرانسوا (François ) الذي يؤمن بالمعجزات والرسل، لم يجد ما يقوله سوى أنه يعبر عن تعجبه من "ماكرون الظاهرة". لكن هذا الرجل الذي قارنه الكثير بعيسى عليه السلام لم يظهر في السماء الفرنسية في هالة من نور، ولم يأت راكبا فوق حصان أبيض، أو في هودج جميل، أو محيطا بمدرعات مثل الجنرال لوكلريك (Leclerc)، ولم يأت على رأس حركة ثورية مثل لنين (Lénine) أو ماو نسيتونغ (Mao Tsé Toung)في القرن الماضي. ليست الحركة التي أسسها قبل عام فقط حركة مجتمع مدني من نوع "سونس كومان" (Sens commun) وليست حركة شعبية مثل تلك التي التفت حول جون لوك ميلونشون (Jean-Luc Mélenchon) الذي يناضل منذ عقود وتقدم للرئاسيات قبل هذه، وليست تشكيلة سياسية مثل باقي الأحزاب. ولا يوحي اسم حركته « En Marche » بأي رسالة ولا هدف معين ولا تحمل حتى أي وعد بشيء ما، وكأن كل ما يدعو إليه ماكرون هو سفر استجمام يقوده هو وتابعيه عبر فرنسا. الشيء الوحيد الذي تأكدنا منه هو أن نقطة وصول الركب كان قصر الإليزيه. وهو في ذلك، لم يصرف فلسا واحدا، بل ربح منها في شكل هبات لمساندة مشروعه ومداخيل حقوق المؤلف عند نشر كتابه "ثورة". وهل قطع المسافات الطويلة من شمال فرنسا إلى جنوبها كما فعل أبناء المهاجرين (La marche des Beurs)قبل عقود لاستمالة الرأي العام لقضيتهم؟ لا، لم يقطع كيلومترا واحدا. هل حاول محاصرة باريس كما فعل من سبقه من قادة في التاريخ عندما دخلوا روما أو برلين بالقوة؟ لا، لم يخض أي معركة ولم ينله خدش واحد ولم يخاطر بشيء ولم يواجه "جيوشا ضروسة". لقد عرفه الفرنسيون وهو في عقر قصر الإليزيه الفخم وتحت أضوائه، وسمعوا خطاباته الأولى في تجمعات عامة عارمة وتحت هتافات آلاف المعجبين، ثم اكتشفوه أكثر في "معارك" تلفزيونية لينة. ما نعرفه هو أن من يحلمون القيام بثورة ويريدون كسب الجماهير واستمالة الشعوب لآرائهم، فإنهم يقترحون الانطلاقة من أرضية جديدة مفرغة من رواسب العالم القديم حتى يضعون هم قواعدهم الجديدة ويرسمون عالمهم المرغوب، أما ماكرون فإنه يريد الوفاق بين اليساريين واليمينيين ولمهم حوله وكأنه القطب الذي كان ينقص فرنسا منذ 1789 لكي تدور عقاربها في الاتجاه الصحيح. لم يشأ التخندق في أي جهة حتى يمكنه أن يكون في الاثنين معا والاستحواذ على أصوات مناضليهما. إنه مثل نابليون الثالث الذي كان يلقب بالمرشح الذي "يتقبض على كل شيء" سنة 1848. ولم نرى في كتابه التبشيري الذي عنونه "ثورة" أي رغبة في الإطاحة بنظام ظالم أو محاولة خلق شغب في المجتمع، بل كل ما يقترحه أن يلتف الجميع حوله ويحوم كالنجوم التي تدور في فلك قطب كبير، لا لسبب إلا لأنه قائد جديد يلمع مثل أوقية جديدة، ولم يلده أحد، وكأنه تولد تلقائيا من نفسه. يجب على من يريد الحصول على مكانة ما في الحقل السياسي الفرنسي الذي امتلأ عن آخره والذي أفلقت أبوابه منذ أكثر من قرن، يجب عليه أن يستيقظ باكرا وأن يبذل الجهد الجهيد والنفس النفيس لأن الأمر ليس مخاطرة أو صدفة بل هو أشغال شاقة وعملاقة مثل تلك التي قام بها هرقل (Hercule) في ملحمة هوميروس (Homère) . بالفعل، إن الأمر يتعلق بفسخ المشهد السياسي بأكمله والإطاحة بالحواجز الموجودة بين اليسار واليمين التي كانت تمنع النفوذ من خندق إلى آخر منذ عقود. ثم يجب تسطيح الأرضية يسارا ويمينا والتخلص ممن يمكن أن يود التخندق في معسكره ويضربه من هناك ويمنعه من إيجاد المساحة الحيوية التي يمكنه أن ينمو فيها ويبني فوقها البناية الجديدة غلى أسس ثابتة. لكن ماكرون ليس هرقل ولم يجبر على إنجازه الضخم بقوة الساعد والسيف، بل سقط كل شيء من حوله مثل قصر من ورق في الوقت الذي كان يشرع فقط في وضع اللبنات الأولى لبنائه، فنجح حيث أخفق ديغول (De Gaulle) بين سنة 1945 و1955 رغم كل ما اكتسبه من سمعة عالمية وشرعية تاريخية تفوق الشرعية السياسية ورغم أن الشعب الفرنسي مدين له إلى الأبد. لا تكمن المشكلة فيما قام به ماكرون في حقه في ذلك أو قدرته عليه، بل السؤال الذي أذهل المحللين والمتتبعين وذوي العقول الديكارتية هو كيف تمكن في فعله ذلك في ظرف سنة وحيدة قصيرة، وهو زاهد في جهده وعرقه؟ وإذ هم يحاولون إيجاد تفسير يقبله العقل، لم يجد المشككون المتذمرون إلا أن يقولوا إنها "غلطة هولاند (Hollande)الذي لم يترك سوى الخراب وراءه". والحقيقة الصارمة ليست هذه كلية ولكنها ليست خطأ أيضا. وهو يسير نحو الإليزي، لم يكلف ماكرون نفسه بمس أحد ممن كان بإمكانهم الوقوف في طريقة بل تعثروا سقطوا كلهم وحدهم، الواحد تلو الآخر: ساركوزي، جوبي، مونتبورغ، فالس، هامون، ميلونشون، فيون، لوبان (Sarkozy, juppé, Montebourg, Valls, Hamon, mélenchon, Fillon, Le Pen...)… ولم يضطر للمراوغة من أجل إسقاط الحزب الاشتراكي بل قام هولاند بالمهمة بأن فشل في عهدته إلى درجة أن يئس الجميع منه، الصديق قبل العدو، والمناضل قبل المتعاطف. فرفضوا السير وراءه في مغامرة ثانية يعرفونها وخيمة العواقب وكانت المعارضة قد بدأت منذ مدة من قبل مجموعته البرلمانية لبعض المشاريع التي تتقدم بها الحكومة التي لم تنج حتى هي من معارضة أعضائها اللذين "انتفضوا" الواحد تلو الآخر مثل توبيرا (Taubira) وهامون (Hamon) ومونتبورغ (Montebourg) وماكرون نفسه، إلى أن بلغ الأمر بأن هدد بوضوح الوزير الأول بالترشح ضد رئيسه إن قرر التقدم لعهدة رئاسية أخرى. فرضخ هذا الأخير وأطاع لأنه كان يدري مدى الخطر الذي يهدده. أما ماكرون الذي كان في قلب السلطة، فإنه كان يلاحظ كل ذلك الاضمحلال والانحلال والتفسخ من الداخل، حيث كان مستشار هولاند في الإليزيه ونصبه وزير الاقتصاد فيما بعد. ولم يكن بصره عاديا أو سياسيا، بل كان يبصر بعين البنكي الذي تدرب في بنك روتشيلد. كان عقله يحسب لكل شيء ويخطط كيف يمكنه التسلل في الوقت المناسب خارج تلك المنصة التي كانت تغرق ويتحسس الفرصة التي سيصعد فيها على منصة جديدة، قوية لا هشاشة فيها، ويكون هو، ماكرون، الممثل الواحد، والمخرج الأوحد. فكان أول شيء راهن عليه هو الموت السياسي لهولاند الذي رآه بأم عينيه ينتهي، تاركا اليسار الحكومي بدون "مرشح طبيعي". ورأى المنفذ، أو بالأحرى المدخل، من ذلك الشرخ. وفي بضعة أشهر، نظم الابتعاد عن ذلك الذي أدخله في دائرة أضواء الجمهورية والحياة العامة وأطلق فكرة «En marche ! » وذلك حتى قبل مغادرته الحكومة. وفاز برهانه عندما نهائيا عندما أعلن هولاند عدم ترشحه في ديسمبر 2016. أصبحت الساحة مفتوحة إذن ولم تكن عملية اختيار المرشح للحزب الاشتراكي بالأمر الذي سيخيفه لما رآه من علامات الانهزام البادية على المتخاصمين الذين يعرفهم حق المعرفة واحدا واحدا، وكان يعرف نقاط قوته هو. فهو وسيم ومثقف ويكسب ثقة الناس بسهولة. لا يجر ماضيا قد يعرقل مسيرته. فهو يذكر في نفس الوقت بأحد الممثلين المشهورين، روبيرت ريدفورد (Robert Redford)وبجون كينيدي (John Kennedy) الذي ترأس أمريكا. إنه جريء وبدون عقد، يحمل نظرة مستقبلية ومتفتحة على ما وراء الأطلسي مما يجعله يخالف تماما صورة فرنسا المحافظة القديمة. وعند انتهاء النقاش الذي دارت رحاه بينه وبين خصمته مارين لوبان أربعة أيام قبل الموعد الانتخابي، رفعت كل الشكوك العالقة والتساؤلات الأخيرة، وتيقن الجميع أنه سيصبح ثامن رئيس في ظل الجمهورية الخامسة، وربما الأخير منها لأنه لم يعد هناك مجال للشك في أنه سيفتح صفحة جديدة في التاريخ السياسي الفرنسي وإطاره المؤسساتي بمجرد وصوله إلى قصر الإليزيه. كان في ذلك النقاش أحسن منها لأن أفكاره تواكب التوجه العام للعالم وتتوافق مع التوازنات الاقتصادية العالمية ونموذج الإنتاج الذي نتج عن الثورة التكنولوجية بينما بقيت مارين لوبان تتفنن في التذكير بما مضى من أفكار فاتها الزمن وغير قابلة للتطبيق اليوم، وفي جعبتها الحنين والشوق إلى الرجعية. إنها كانت تحمل فرنسا ما قبل ديغول الذي وضع فرنسا في قطار أوروبا. لم تكن المناظرة بينهما بين متنافسين ولدا في نفس القرن، بل كانت بين تصورين للحياة، أحدهما وليد حزب قديم عنصري ومحافظ للغاية، والآخر يدعو للولوج في الألفية الثالثة. فكانت المجابهة بين المتنافسين بعنف الصدام بين المشروعين، أحدهما يبني في المستقبل والآخر يستهويه أشباح الماضي بقوة جارفة أيضا. ومهما فعلت، لقد فشلت مرشحة الجبهة الوطنية في سجن ماكرون في صورة "حزب الخارج" و"العولمة المتوحشة"، بل كانت تبدو بعيدة كليا عن المقتضيات الاقتصادية الآنية مع أن الاقتصاد كان من بين المسائل الرئيسية خلال هذه الانتخابات. إن أقل ما يمكن قوله هو أن فرنسا، مع ماكرون، قد وصلت إلى منعرج في تاريخها. وليس هذا بالتأكيد الفارغ بل بحقيقة واضحة حيث أن الآليات الرقمية والروبوتيك والذكاء الاصطناعي، والمخاطر المناخية والهجرة العالمية يفتح عهدا جديدا يتطلب لغة أخرى ووجوها أخرى… إن مشهدا سياسيا جديدا هو الآن بصدد التشكل وهو ما وعد به ماكرون. لكن ماكرون رجل، وككل الرجال، فلديه بالتأكيد مواقع ضعف وكبوات. أما الآن وقد تجند الجميع أو تقريبا للقضاء على الجبهة الوطنية ومارين لوبان، فإن الجميع يلتزم الصمت والدعم. لكن، بعد شهر ونصف، ستأتي الانتخابات التشريعية بوجه جديد للبرلمان وسيعرف الفرنسيون آنذاك إذا سيملك الرئيس الجديد الوسائل المؤسساتية لتطبيق برنامجه أو أنه سيضطر لتطبيق برنامج أغلبية أخرى، وبالتالي سيكون انتخابه كله وما تمخض عنه عدما وغير نافع ومفرغ من هدفه ومضمونه. بالفعل، إذا واصل الناخبون في منحه ثقتهم أو حتى استسلامهم لمن رضخوا للأمر الواقع، ومساعدته على نيل أغلبية في البرلمان، فإنه سيكون الرئيس الذي أراد أن يكون، شريطة أن يخلق ساحة سياسية جديدة بمواد بناء جديدة وليس تلك المستعملة من قبل والتي بقت كالشظايا من تفكك المواكب السابقة. وهذا رهان يجب عليه الفوز به، وإلا فإنه سيكون قد فشل. في المستقبل القريب، لا يجب على ماكرون الاتكال على حدس البنكي مهما كانت حنكته، بل على المعرفة والتجربة العملية التي اكتسبها من مهنته إذا أراد النجاح في مهمته. فالحدس كفاه للوصول إلى الإليزيه لكن المعرفة ستبقيه فيه، لكن بصفة فعالة ونشيطة وليس كالملاحظ المسكين مدة خمس سنوات. عليه أن يجد الطريقة الأمثل لكي يجعل من الأفضلية التي اكتسبها ممن صوتوا عليه في الدور الأول عن قناعة وممن صوتوا عليه في الدور الثاني رغما عنهم ركبا ناجحا سيجعل منه رئيس جمهورية حقيقي وفاعل، وتفادي وضعية الرئيس الخاضع لنظام برلماني. والدستور الفرنسي كما هو اليوم، يجعل كلا الحلين ممكنين، وهو ما عاشته فرنسا مرتين عندما فرض الناخبون "التعايش" على ميتران (Mitterrand) وشيراك (Chirac) في الثمانينات والتسعينات حيث فرضوا حكومة يمينية على رئيس يساري والعكس. اليوم، وإلى حد الآن، فإننا نعيش انتقال السلطة من يد رئيس إلى آخر دون أي توتر، بل ببديهية كبيرة، لكن صفحات الأيام التي ستفتح بعد السابع ماي لن تكتب بقلم الصدف والمعجزات وحسن الحظ، لكنها يد رجل هي التي ستكتبها، وهي يد الرئيس إيمانويل ماكرون. وحينها فقط، ستبدأ المناورات والمفاوضات والانتقادات وسوء الظنون والشكوك والتشكيك. سيقبل الجميع ممن لم يعجبهم أمرا ما أو قولا ما أو قانونا ما من البحث عن "كبوته" في حياته الشخصية وماضيه وأعماله، وسيريد هؤلاء الإجهاز عليه إن لمزا أو نقدا أو تدبيرا. وسيغتنم الفكاهيون ذلك الوضع لإضحاك الجماهير على حسابه. وعلى ماكرون أن يتفادى السقوط العاجل في هاوية عمليات صبر الآراء كما حدث لسابقه الذي يشك الكثير في أنه وريثه. وعندما نقرأ الأحداث من وجهة نظرنا نحن، فإن ماكرون قد نجح أيضا في لقائه مع الشعب الجزائري حيث قال له الكلمات التي كان هذا الأخير ينتظرها منذ زمن طويل عن الاستعمار، كما نجح في استمالة الجزائريون اليهود على قلتهم بأن زار قبر الممثل روجي أنان (Roger Hanin). لقد نجح مثل بونوا هامون وجان لوك ميلونشون في تجنب السقوط في فخة الخلط بين الإسلام والإسلاموية المتطرفة. مثلهما إذن وعكس فيون ومارين لوبان، فإنه لا يرى في الفرنسيين المسلمين "ضيوفا يجب أن يحترموا عادات مستضيفهم"، بل يراهم كمواطنين كاملين لهم نفس الواجبات ونفس الحقوق. وما العمل إذا لم يكن الأمر كذلك؟ هل ستعيش فرنسا ليلة القديس بارثولوميو (وهي المذبحة الرهيبة التي قادتها السلطات الكاثوليكية سنة 1572 ضد البروتستانت في فرنسا كلها والتي دامت حوالي شهر وتم تقتيل والتنكيل بحوالي 30 ألفا منهم) بقوة "ن"؟ ففرنسا لا تملك اليوم سوى حلا وحيدا مع مسلميها وهم ستة ملايين وهي أن تدمجهم وتدعوهم لتقاسم ما توفر من الخبز ووزنه من العرق. بقلم: نورالدين بوكروح ترجمة: نورة بوزيدة