بقلم: الطيب توهامي جذب اهتمامي مسلسل غرابيب سود منذ بداية بث قناة أم بي سي للفقرة الإعلانية الخاصة به، كونه يتعرض بالدرجة الأولى لموضوع حساس هو يوميات تنظيم داعش من الداخل، وطريقة استقطاب هذا التنظيم للعنصر النسوي في كتائبه. وتزداد حساسية مشروع المسلسل باعتماده على قصص واقعية من محافظة الرقة السورية، وتصبح الحساسية أكثر تكثيفا إذا علمنا أن مواقع التصوير كانت في لبنان، على تخوم المناطق التي تصنع فيها آلة التعذيب الداعشية أنكر جرائمها. كغيره من المسلسلات الناجحة، أثار غرابيب سود لغطا وجدلا واسعا منذ بداية التصوير، فقناة أم بي سي وذراعها الإنتاجي شركة أوثري لهما مقدرة كبيرة على تنفيذ المخططات التسويقية بنجاح، بدءا من اختيار الموضوع إلى المعالجة الدرامية والإخراجية، مرورا بالميزانية الضخمة المرصودة التي بلغت 10 ملايين دولار أمريكي، ناهيك عن كاست النجوم المشاركين في العمل والذين تم اختيارهم من سبعة دول عربية.. كل هذه العوامل مشتركة جعلتني أنتظر بث المسلسل مثل غيري من ملايين المشاهدين العرب، وحتى الأجانب الفضوليين لمعايشة هذا التنظيم الإرهابي من الداخل، نظرا للحملة الإعلامية التي شنتها مواقع وجرائد ومجلات أمريكية وأوربية، علقت باهتمام عن مراحل تصوير هذا المسلسل. كل عوامل النجاح اشتركت في هذا المشروع كي يولد ضخما وقويا، حيث سخرت له موارد بشرية ومادية هائلة، ومنحت القناة المنتجة أكثر من سنة ونصف لفريق البحث عن القصص المشوقة التي يتضمنها السيناريو الذي أشرفت عليه كاتبة غير مشهورة في مثل هذه الأعمال وهي لين فارس، ومنحت اللمسة الإخراجية لثلاثة مخرجين، اثنين منهما قدما مسلسلات وأعمال درامية قوية في الأعوام المنصرمة معظمها تتطرق للقضايا النسوية، وربما في اعتقادي هو السبب الرئيس لاختيارهما، لأن موضوع غرابيب سود مرتبط أساسا بتجنيد النساء في التنظيم، واستغلال أطفالهن في الجرائم الإرهابية التي كانوا يقومون بها. من الناحية الفنية والتصويرية، تمكن المخرجون الثلاثة من تقديم عرض متميز إلى حد الساعة، يختلف عما عهدناه في الدراما العربية.. تطور كبير في تجويد الصورة، إذ أنها لا تختلف عن جودة الصورة في أهم المسلسلات العالمية. التقنية المستعملة في التصوير عالية باستعمال الآلات الضخمة المختلفة والدقة في استعمالها من لوما إلى ترافلينغ إلى ستيدي كام، حسب طبيعة المشهد واللقطات. طال عنصر التجويد كذلك الصوت، وماكياج الممثلين وملابسهم، وكذا تركيب المشاهد والأحداث بطريقة سلسلة وشيقة، خصوصا وأن أحد المخرجين يعتبر من أهم المركبين العرب. من ناحية المضمون، كثير من المشاهد كانت ناجحة دراميا، فعنصر الرهبة والخوف يعتريك منذ الحلقة الأولى، فتشعر فعلا أنك بين مخالب داعش. التفاصيل كذلك أعطت زخما للحبكة، وأماطت اللثام عن طرق استيعاب داعش للمجندين والمجندات، والشعارات الدينية والعقدية التي استغلتها لغسل أدمغة المنتسبين إليها. الحوار في أغلب مشاهد المسلسل كان مدروسا بعناية يعبر عن إديولوجية التنظيم، غير أن استعمال اللغة الفصحى من طرف عناصر التنظيم العاديين من الرجال والنساء فيه شيء من الابتذال، إذ لا يعقل أن يتحدث الجنود بتلك الفصاحة التي يعجز عنها أعتى المتفوهين. السيناريو في اعتقادي هو الحلقة الأضعف في العمل، إذ تشوبه العديد من الهينات والعثرات، فتركيز الكاتبة بشكل مطلق على الحالة النفسية للنساء والأطفال المجندين لدى داعش، على حساب الحالة النفسية للمفتي مثلا أو الأمير أبو طلحة، أدخل البناء الدرامي في حالة اختلال أو عدم توازن.. لقد أخذ السيناريو منحى الروبورتاج الإعلامي في معظم المشاهد إلى حد الساعة طبعا، ولم يتمكن من التعمق في الشخصيات المفتاحية لهذا العمل الدرامي، فأنا مثلا تمنيت أن يجيب المسلسل عن أسباب تلك القسوة المفرطة والجرائم المروعة التي ينتهجها التنظيم، من خلال الغوص في نفسيات قادة التنظيم، ليس لتبرير أفعالهم طبعا وإنما نظرتهم لما يجري من أحداث، وقد فشل المسلسل في إبراز ذلك إلى غاية الساعة طبعا، لأنه من غير المعقول أن نحكم على عمل درامي وهو لا يزال في بداياته.. على كل تبقى القوة الضاربة للمسلسل في واقعيته التي تصل أحيانا إلى درجة التقريرية، وأعتقد أن الهدف المنشود من إنتاج هذا العمل الضخم سيتحقق في النهاية، بتسليط الضوء على ظلامية هذا التنظيم الغارق في السواد الشديد. الطيب توهامي: سيناريست، مخرج، ومنتج سمعي بصري.