لن يستطيع أحد أن يتجاوز عبق الماضي والحنين لأيام زمان أثناء مروره بأحياء القصبة بالعاصمة، أو الشوارع القديمة في باقي المدن الجزائرية، فالجدران يمكنها في تلك اللحظة أن تروي للمارين حكايات "الصنايعية" والمعاليم (الساعاتي، النقّاش، الصياغ والطراح) وآخرين ممن عملوا بسواعدهم، فأبدعوا فنا تقليديا دخل بيوت الجزائريين وزينها ركنا بركن، مقاوما تيار العصرنة الجارف ردحا من الزمن، لكنه استسلم في النهاية على يد جيل لم تعد تهمه حرفة أجداده، وفضّل بسط طاولة في وسط الشارع لتجارة موسمية، أو العمل سائقا أو عون أمن، على امتهان حرفة بات البحث عنها كمن يبحث عن إبرة في كومة قش. لم يعد للحرف والمهن التقليدية مكان في بيوت الجزائريين، بعد أن طغا العصري والحديث على كل ركن وزاوية، وتحول الحديث عن مهن معينة كالحديث عن ماض اندثر أو على وشك ذلك، فلم يعد هناك مكان لأواني النحاس، ولا لفخامة الأثاث المصنوع من أفخم أنواع الخشب والجلد، ولا الأواني الفخارية. أما المهن فحدث ولا حرج، فلن تعثر بسهولة على سباك ولا نجار ولا بناء، لأنها مهن على بساطتها بدأت تختفي وتضمحل، وحلت محلها مهن بمسميات أخرى أكثر حداثة. غياب هذه المهن يجعلنا نتساءل عن أسباب عزوف الشباب الجزائري عنها، فهل لكونها تحتاج إلى مجهود عضلي، أو لدقتها العالية التي تحتاج إلى التركيز والصبر؟ وهو ما يفتقده شباب اليوم الذي أغراه الربح السريع، وأصبحت التجارة هدفه.. أم هي نعمة النفط التي حولناها إلى نقمة، فعجلت باندثار حرف كانت إلى وقت قريب مصدر عيش كثير من الأسر الجزائرية، بل عاملا من عوامل الحفاظ على العملة الصعبة، بدل الاعتماد على الحرفيين الصينيين في مهن بسيطة، تكلف الخزينة العمومية أموالا طائلة بالدولار والأورو. ________________________ * "البلومبي" البحث عن المفقود يمكنك في الجزائر أن تعثر على بروفيسور في الطب بسهولة، ويمكنك مقابلته وإجراء فحص، لكنك لن تكون بنفس القدر من الحظ إذا حاولت العثور على صنايعي "سباك" أو"بلومبي" أو "كهربائي" يمكنهما إصلاح أو تركيب توصيلات كهربائية أو صحية، فهذه المهن التي تدر الكثير من المال على أصحابها، لم تجد من الشباب الجزائري من يمتهنها إلا القليل، ورغم حاجة المواطنين لرصاص، إلا أن البحث عنه بات يؤرق المواطن، فهو موجود وغير متوفر! هذا ما يمكننا قوله. في جولة بسيطة بشارع ميسوني بالعاصمة، ترى عددا من السباكين وهم مجموعة من الكهول والشيوخ يصطفون بقارورات الغاز الصغيرة، وأدوات التلحيم البسيطة، عارضين خدماتهم على زبائنهم الذين يعرفون مكانهم جيدا؛ يشتركون جميعا في خصلات الشيب التي علت رؤوسهم، لا شاب بينهم قط، وهو ما يشير إلى هروب الشباب من هذه المهنة، مفضلين لعبة القط والفأر بينهم وبين رجال الشرطة، الذين يمنعونهم من بسط سلعهم على أرضية الشارع العاصمي العريق، لكن لا أحد يمنع السباكين من وضع عدتهم على الأرض. عمي أحمد واحد من سباكي حي ميسوني الذي يقعد إلى جانب أصحاب "الكار" منذ أكثر من عقدين من الزمن، منتظرا زبونا يشتكي من رائحة الغاز في البيت، أو تعطل جهاز التدفئة أو سخان الحمام، خاصة في فصل الشتاء، أين تزداد الطلبات على "البلومبي" وترتفع أسهمه. يقول عمي أحمد إن عملهم يكثر عليه الطلب وأحيانا لا يمكنهم تلبية جميع الطلبات، متأسفا من عدم اهتمام الشباب بهذه المهن، خاصة في العاصمة، رغم أن مراكز التكوين تمنح لهم الفرص. مضيفا أنه لم يستطع ان يقنع ابنه بتعلم هذه المهنة، مشيرا إلى ان العادة جعلتهم يجتمعون كل صباح في حي ميسوني، وقد اعتاد عليهم العاصميون، لكن هناك مناطق اخرى بالعاصمة يصبح العثور فيها على "بلومبي" ضربا من المستحيل، وأحيانا يتنقل إليهم الزبائن من البلديات المجاورة للعاصمة، لأخذهم إلى بيوتهم، وهو ما يفسر ارتفاع ثمن أتعابهم. * البحبوحة ترفع أسهم "الماصون" عاليا يهرول الجميع بحثا عنه ويتكبدون عناء انتظاره لأيام، وربما وأشهر، للحصول على موعد منه.. إنه "الماصون" سيد الحرفيين والمعلم رقم واحد في الجزائر، من يفكر في تشييد بناء أو تعديل بسيط يبحث عنه قبل مواد البناء، فالبحث عن بنّاء وحجزه يعتبر في نظر الكثير من المواطنين إنجازا لا يصل إليه إلا المحظوظون، وقد سمحت البحبوحة المالية للجزائريين فيما سبق، بالتحرر من فكرة انتظار السكن من الدولة، والمبادرة ببناء سكنات فردية، خاصة على أطراف المدن، الأمر الذي أعاد لمهنة البناء -وما تبعها من حرف مرتبطة بالديكور والتزيين المنزلي- مكانتَها وقيمتها، وأصبحت ذات مردودية. هذه الحال تعتبر استثناء، حسب المختصين، فقد يؤدي انهيار القدرة الشرائية للمواطن في ضياع فرص العمل لهذه الفئة مستقبلا، ومن خلال حديثنا إلى الشاب احمد احد البنائين القادم من إحدى الولايات الداخلية، أكد ان طلبات الزبائن لا تتوقف، حتى انه يملك دفترا يضع عليه أسماء من طلبوا خدماته، ويرتبهم حسب الأهمية والأعلى ثمنا، فمجيئه رفقة مجموعة من الشباب إلى ضواحي العاصمة كان مخططا له بحكم اتساع رقعة الأراضي المبينة في ضواحي العاصمة، وهو ما فتح شهية احمد للحصول على مشاريع كبيرة، وبأسعار يحددها هو، بما ان صاحب المشروع يملك المال ومستعد للدفع. يقول احمد ان فريقه متكون من بنائين ومركبي بلاط ودهانين؛ الكل يعمل ضمن اختصاصه لتلبية رغبة الزبون الذي يبقى عليه اختيار الشكل والألوان وإحضار السلع للموقع، لا أكثر. _________________________ * مطرقة النحاسين تتوقف إلى الأبد في القصبة العريقة يواصل عمي الهاشمي العزف على قطع النحاس منذ أكثر من خمسين سنة، في إيقاع اعتاد عليه سكان القصبة، فقد ألفوا صوت الطرق على النحاس الذي يذكرهم بالماضي الجميل، أين كانت القصبة تعج بأكثر من عشرين نحاسا، يبدعون في صناعة أدوات زينة، وأوان كانت ولا تزال رمزا من رموز الحي العتيق.. سينيات وطاولات ومزهريات، وأوان تنبض بالحياة، ففي كل ضربة مطرقة حكاية، وكل نقش يروي قصة عشق أو بطولة من مروا من هناك ذات يوم. لم تحتفظ القصبة بنحاسيها على غرار باقي الحرف الجميلة، من خياطة وجلود، لم يتبق سوى بائعي القماش ودكان عمي الهاشمي النحاس، الذي لا يزال يصارع من أجل البقاء.. وحيدا.. بعد أن توقفت مطرق باقي النحاسين إلى الأبد. يقول عمي الهاشمي ان جيل اليوم لم يعد يهتم بالحرف، بعد ان غزا المستورد وطغا على صنعتهم، ولم يعد بالإمكان إقناع الشباب بتعلم هذه الحرفة، التي لا يزال عمي الهاشمي متمسكا بها، بعد ان اقتحمها لأول مرة سنة 1958 على يد جاره العجوز. عمي الهاشمي قال إن غياب الدعم من قبل الدولة رهن صناعة النحاس، وادخلها أدراج التاريخ، ولم يعد بالإمكان ان تقاوم أكثر رياح العصرنة، حتى ان جيل اليوم لم يعد يهتم باقتناء الأدوات النحاسية التي كانت تزين غرف العرائس وصالونات البيوت، لكن اليوم قلة قليلة من بقيت محافظة على هذا التراث، ولم يعد النحاس يغري العائلات، بل أصبح مطلوبا لدى بعض المهتمين به على قلتهم. _____________________ * لا يزال محافظا على عشاقه الفخار حرفة "جانبها الحظ" استطاعت صناعة الفخار ان تقاوم الزمن والعصرنة، خاصة صناعة الأواني التي احتفظت بعشاقها، رغم منافسة المنتجات الحديثة، ولا تزال اطقم الاكل تزين طرقات المدن، وتستوقف المارين من هناك، والباحثين عن اواني تزين مائداتهم، وتزيد اطباقهم التقليدية لذة. والحديث عن الفخار ياخذنا للعودة الى قرية معاتقة بتيزي وزو، التي لا تزال محافظة على العجلات الدوارة، وعلى الانامل الملطخة بالطين. تقول خالتي يمينة إحدى حرفيات الفخار بمعاقتة، إنها لا تزال متمسكة بما تعلمته من والدتها وجدتها ونساء العائلة، وتشارك خالتي يمينة في مهرجان الفخار الذي تقيمه المدينة كل عام، بعرض الكثير من المنتجات أمام عشاق هذا الفن الذي يبقى محظوظا الى حد كبير، والأجمل ان سكان معاتقة فتحوا ورشة لتعليم صناعة الفخار للاطفال، حتى تستمر الحرفة جيل بعد جيل. _________________ الأستاذ عمار بن طوبال مختص في علم الاجتماعي الثقافي الدولة صنفت "المعاليم" في ذيل الترتيب الاجتماعي أكد عمار بن طوبال مختص في علم الاجتماعي الثقافي، ان الجزائريين يتجهون تدريجيا ليصيروا من أكثر الشعوب احتقارا للحرف، فالحرفة عند الجزائري هي اضطرار يفرضه عدم وجود حل آخر، في انتظار "الشهرية"، وإلى وقت قريب كان صاحب الحرفة لا ينادى إلا بالمعَلّم، إعلاء لمكانته التي توفرها قدرته على تقديم خدمات، الذين يستطيعون تقديمها في محيطه الجغرافي هم من القلائل. هذا الوضع وتلك المكانة بدأتا بالانكسار تدريجيا مع صعود الخطاب الاشتراكي في ستينيات وسبعينات القرن الماضي، وسعي النظام لربط المجتمع وأفراده بالدولة، التي لم ينظر النظام الحاكم آنذاك إليها في يوم من الأيام بعيدا عن كونها دولة ريعية، لا تقوم سوى بتوزيع الريع في شكل أجور وخدمات على مواطنيها، وهذه النظرة هي التي كسرت تدريجيا مكانة المهنة والحرفة، وقذفت بمكانة "المعاليم" إلى ذيل الترتيب الاجتماعي، قبل أن يعود بعضهم للواجهة (البنائين خصوصا) بسبب ظروف طارئة واستثنائية لن يقدر لها الاستمرار، لأنها مجرد طفرة مؤقتة مرتبطة بسنوات البحبوحة التي سمحت للجزائريين بالتحرر من فكرة انتظار السكن من الدولة، في مقابلها هناك الكثير من المهن التي تتراجع إلى الخلف، وبعضها يندثر، خاصة ما يتعلق بالحرف التقليدية، كمهنة الخياطة، خاصة بالنسبة للرجال التي أصبحت "ما توكلش الخبز"، وبالتالي أصبح ينظر إلى ممارسيها بشفقة، وبأنهم أفراد يتموضعون اجتماعيا واقتصاديا في درك السلم الاجتماعي، ما أدى تدريجيا إلى إدانة غير معلنة للمهن، وإلى تفتيت نسيج اجتماعي كامل في وقت مضى، كان ما يسمى بالتقسيم الجغرافي للمهن. فكان المزابي تاجرا والجيجلي خبازا أو حلاقا، والسطايفي بناء، والقبايلي فندقجيا، لكن هذه التركيبة تتفتت تدريجيا، حين يتجه الجميع نحو البحث عن الوظيفة التي تعني الارتباط بالدولة، باعتباره الحائط الذي لا يخيب من استند إليه. ____________________________ * بورتري الساعاتي جمال جحلاط.. يعيد النبض لعقارب الزمن الجميل منهمك في البحث عن أصغر القطع وأكثرها دقة، بين يديه تتوزع -على طاولة صغيرة- الكثير من الأشياء الثمينة.. مطرقة يزيد عمرها عن 150 سنة، يحتفظ بها عمي جمال منذ نعومة أظافره. عمر يمتد ضاربا في عمق التاريخ والأصالة، عبر أكثر من 80 سنة قضتها العائلة متنقلة بين عقارب ساعة لم تتوقف يوما بين يديهم، تمنحها عائلة عمي جمال -وقبله والده وشقيقه- نبضا، لتستمر في الحياة، في شكل تحف يفوق عمرها عشرات السنين، ويتعدى بعضها المئة. حكاية عائلة "جحلاط" بدأت في محل بقلب شارع طنجة بالعاصمة، أين تعلم الأب الحرفة على يدي زوجين فرنسين غادرا الجزائر بعد الاستقلال، وتركا الساعاتي الجزائري وحيدا، رغم مساعيهم للاتصال به، إلا انه فضّل أن يبدأ من جديد بنبض جزائري خالص، وبأنامل لم تتوقف يوما عن ضبط الزمن على إيقاع صغير، محركا عشقا من نوع آخر لا يتوقف عن النبض، وتواصلت المسيرة من الأب إلى الابن.. عمي "جمال السعالجي" بمدينة بواسماعيل الجميلة. فورث الابن أباه، وعرف الصنعة وأسرارها الدقيقة والأدق. وجدناه يقلّب ساعات زبائنه بيد ماهرة جدا، من النظرة الأولى يعرف حالة الساعة إن كانت قابلة للعلاج أو ميؤوس منها، في محله في مدينة ببوسماعيل يقول عن كيفية احترافه لهذه المهنة: "اخترت أن أكون "سعالجي" لأنها حرفة ممتعة، وتحتاج إلى تركيز عال، فهي ليست حرفة سهلة، بل على العكس، تحتاج إلى مهارة كبيرة ودقة، خاصة في تلك الأيام التي كانت الساعات فيها تصنع باليد، وبحرفية كبيرة، على العكس من ساعات اليوم الرخيصة الصنع والثمن أيضا". وعن كيفية تعلمه لأصول المهنة يقول: "منذ صغري دأبت على الجلوس إلى جانب والدي، وتعلم حرفة، خاصة وأني أعاني من عجز على مستوى رجلي، وهو ما جعلني أرغب في تعلم حرفة لا تستدعي تحركا كثيرا". قضى عمي جمال أربعين عاما في دكانه، وقضى منها أخوه الأكبر أكثر من ذلك، لكنه تأسف من امتناع الجيل الجديد عن تعلم هذه الحرفة، فلا احد في العائلة من الجيل الجديد يرغب في تعلمها، ولم يتبق من العائلة الذين حملوا الحرفة سوى عمي جمال وشقيقه. مؤكدا أن شباب اليوم يرغب في الربح السريع، كما أن التكنولوجيا الحديثة أبعدت عقارب الساعات عن الجيوب والأيدي، بل طالت أيضا جدران البيوت التي كانت تزدان بساعات حائطية خشبية جميلة، ولأن "المهنة تحب من يحبها، وتتعلق به كما يتعلق بها" يواصل عمي جمال الجلوس خلف طاولته، متحديا رياح العصر والاتكالية، والكسل الذي عصف بالجيل الجديد، يجلس لساعات طويلة محاولا إعادة النبض إلى ساعات قديمة وحديثة، في زمن يتسارع فيه كل شيء، منبئا بزوال حميمية وأصالة أيام زمان. روبورطاج: سهام حواس