اغتيال زميلي وتلميذي إسماعيل يفصح دفعني إلى الهجرة يوم جنازة الشهيد يفصح سافرت إلى لندن وفي جيبي ألف فرنك فرنسي سافرت لأيام ..لكن قضيت 10 سنوات في لندن دون أن تطأ قدماي أرض الوطن بسرعة فائقة أصبحت رئيس تحرير ومقدم أخبار ومراسل mbc العمل في قناة أبو ظبي كان هو الآخر تجربة رائدة
هو من الوجوه القليلة التي طبعت التلفزيون الجزائري في فترة الثمانينات، يتميز برزانته وحضوره الهادي، حظي باحترام وتقدير المشاهد العربي على مدار سنوات قضاها في الغربة بعيدا عن وطنه، وفي حواره الذي خص به جريدة "الحوار" يحدثنا الإعلامي محفوظ بن حفري عن أهم محطات سفره وذكرياته مع التلفزيون الجزائري وتجاربه الإعلامية بعد تركه للتلفزيون الجزائري، كما وجه رسالة للجيل الجديد المقبل على دخول مجال الإعلام.
* كيف يقدم الإعلامي محفوظ بن حفري نفسه للقارىء الجزائري ؟ – كنت وسأبقى من الذين يحبذون العيش في الظل، وبعيدا عن الأضواء وأنا الذي عشت طيلة حياتي المهنية تحت الأضواء الكاشفة، ولا من الذين ينشرون سيرتهم الذاتية بل كنت في كل ما مر بي من حياتي إنسانا هادئا يختار محيطه بعناية، يحب التروي والتريث في كل ما يتعلق برسم معالم حياتي وأنا في مقتبل العمر، فقد نشأت في بيئة محافظة وفي عائلة متوسطة الحال وفرت لي أسباب النمو الطبيعي، من أب متعلم تتلمذ على يد العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله ومارس مهنة التدريس ضمن مدارس جمعية العلماء المسلمين، وكان لا بد أن ألتحق بالمدرسة الزبيرية بالمدية التابعة للجمعية وبعدها إلى الثانوية ثم كلية الحقوق بن عكنون، عشرون سنة كانت كافية لأن تخلق مني رجلا بإمكانه دخول معترك الحياة بثبات وثقة بالنفس من خلال التدرج في مراحل التعليم رغم أنني لم أكن من الأوائل فقد فضلت الأدب واللغة العربية على حساب المواد العلمية كالرياضيات والفيزياء والكيمياء وأنا لا أدري أنني على الطريق الذي يفي بي إلى الوجهة الحقيقية التي أوصلتني إلى ما أصبحت عليه.
* كيف تم التحاقكم بالتلفزيون الجزائري ؟ – لم أكن أتصور في يوم من الأيام أن أكون إعلاميا أو صحفيا بالإذاعة والتلفزيون بالذات، بل اقتصر طموحي الذي ظل كامنا في داخلي وهو أن أصبح مدرسا مثل والدي، في كثير من الأحيان تلعب الصدفة أو طارىء معين دورا في تغيير وجهتك، فأنت الذي تخطط لأن تسلك طريقا معينا، تعي كل الوعي بأنه المسلك الذي يفي إلى الوجهة المقصودة، ولكن دون تفكير تندفع إلى طريق آخر، لا تدري إلى أين يوصلك، وكان الذي لم يكن منتظرا، في يوم من الأيام قبيل حوالي ثلاثة أشهر من امتحان شهادة البكالوريا قال لي صديق قريب مني جدا إنه كتب طلبا للتوظيف في الإذاعة والتلفزيون بإيعاز من صديق له يشتغل في قسم الموظفين، فعاتبته على عدم اطلاعي على ذلك لكنني سارعت إلى إرسال طلب مماثل وتم استدعاؤنا لامتحان لم أكن أتصوره ودون الدخول في تفاصيل أخرى تم قبولي ورفض صديقي الذي سلك طريقا آخر في مساره المهني، العائلي والاجتماعي والمهني، والجميل في كل هذا هو أنني أصبحت في مواجهة واقع لا أملك عنه أية معلومات بحكم أننا في بيتنا لا نملك تلفزيونا، فصرت أكتشف شيئا فشيئا هذا العالم الغريب الذي أقمحت نفسي فيه دون ترتيب مني، فوجدت كل الأبواب مفتوحة لولوج خبايا هذه المهنة التي أحببتها من اليوم الأول، ومما ساعدني على ذلك الرعاية التي تلقيتها من جانب القائمين على تسيير الإذاعة والتلفزيون آنذاك فاكتسبت المهارات الأولى لمهنة الصحفي في ظرف قصير لم يتجاوز الشهر، انطلقت بعده في ممارسة المهنة بثقة نفس لا متناهية لتمتد إلى قرابة العشرين سنة عشت خلالها أحداثا وذكريات لا تنسى والتقيت فيها بشخصيات سياسية كبيرة من ملوك ورؤساء وزرت خلالها عشرات البلدان، لكن شاء القدر أن يتوقف هذا المسار فجأة ودون سابق إنذار وأن أسلك منعرجا جديدا وهذه المرة في سن الأربعين.
* ما هي أهم ذكرياتكم في التلفزيون الجزائري ؟ – عشرون سنة قضيتها في الإذاعة والتليفزيون الجزائري كانت مليئة بالأحداث والذكريات التي يصعب حصرها في هذا المقام، فقد واكبت فترة الرئيس الراحل هواري بومدين وقمت بتغطية مناقشة وإثراء الميثاق والدستور سنة 1975 وبعض الزيارات الرئاسية والمناسبات، كما كانت لي علاقة خاصة بالراحل الشادلي بن جديد من خلال مرافقته في العديد من الزيارات إلى الخارج، وكان له الفضل في انفتاح التلفزيون على أساليب العمل التلفزيوني الحديث، وطلبت منه سنة 1989 أن يسمح لنا بإلغاء زيارات المجاملة التي يؤديها السفراء للرئيس ورسائل التهنئة وكان رده في قمة الوعي السياسي "اعملو اللي تشوفوه!". ومن الذكريات كذلك أن الرئيس الشادلي بن جديد رحمه الله، منح لي فرصة تسجيل حديث معه خلال المؤتمر الخامس لحزب جبهة التحرير الوطني وكان آنذاك سابقة في تاريخ التلفزيون الجزائري بعد أن أقنعته بجدوى مثل هذه اللقاءات العفوية، كان بصراحة يستمع للجميع ويحترم الرأي الآخر، وكان لي الشرف كذلك أن أحظى بأداء مناسك العمرة عام 1991 خلال زيارة الرئيس الشادلي بن جديد للسعودية قبيل عشرين يوما من اجتياح العراق للكويت، لم يكن لي الشرف أن أشتغل في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لكن ربما ساهمت من بعيد في تغطية حملته الانتخابية في أم بي سي قبيل تتويجه رئيسا للجمهورية، وقد التقيته في الدوحة بمناسبة انعقاد القمة الإسلامية وقال لي بصريح العبارة إنني أفلحت في خدمة الجزائر ولو من بعيد، وأنا أعتز بهذا الإطراء. *متى وكيف بدأت رحلة الهجرة؟ هنا علينا أن نتوقف لنترحم على أرواح زملائنا من الصحفيين، سواء كانو من الإذاعة والتلفزيون أو الصحافة المكتوبة الذين راحو ضحية التطرف الأعمى خلال العشرية السوداء المشؤومة، كان لاغتيال زميلي وتلميذي إسماعيل يفصح وقبله بأسبوع مصطفى عبادة المدير العام للتلفزيون الحدث المؤلم الذي دفعني إلى اتخاذ قرار مغادرة البلد دون تردد أو تفكير، بحيث سافرت يوم تشييع جنازة الشهيد إسماعيل يفصح إلى لندن، وفي جيبي ما قيمته ألف فرنك فرنسي لا غير ، وأنا أردد وأقول سأرجع بعد أيام عندما تهدأ الأمور، لكن أتى ما ليس يرجى، فقد تفاقمت الأحداث وتوالت المآسي وأنا أنتظر اليوم الذي سأعود فيه إلى الوطن، وكان للتحذيرات التي وجهها لي أفراد العائلة والأصدقاء بعد التفكير في الرجوع الأثر الكبير في إقناعي بالمكوث في لندن، لأن الأوضاع الأمنية لا تبعث على الاطمئنان، وهكذا قضيت عشر سنوات في لندن دون أن تطأ قدماي أرض الوطن.
*تجارب إعلامية كثيرة مررتم بها بعد أن تركتم التلفزيون الجزائري قبل مدة طويلة؟ ليس بالأمر الهين أن يقف المرء في مفترق الطرق وهو لا يدري ماهي الوجهة التي عليه أن يصل إليها وهو لا يملك أدنى مقومات معترك حياة جديدة في بلد غريب لا يفقه ثقافته ولا يحسن التحدث بلسانه، فكان علي أن أطلب يد المساعدة من بعض الأصدقاء الذين عرفتهم في زيارات سابقة للندن، وطرق بعض الأبواب التي ساعدتني في توفير سبل العيش الكريم على الأقل في البداية، إلى أن تتضح الأمور وينقشع الضباب الذي كان يلفني في الأسابيع الأولى من وصولي إلى لندن، وقد ساعدتني كتاباتي في جريدة الحياة اللندنية على الانطلاق ولو ببطء في حياتي المهنية قبل أن التحق بمركز تلفزيون الشرق الأوسط MBC الذي كان في بداية تجربة إعلامية فريدة في الوطن العربي، سواء من خلال هامش الحرية التي كانت نسبية بالمقارنة مع التلفزيونات العربية الحكومية. لقد كان لاندماجي السريع مع فريق العمل المحفز على اكتساب مزيد من الخبرات التي كانت عبارة عن استكمال لمجال المعرفة فيما يتعلق بتقنيات وفنيات التحرير، والتي توجت تجربة عشرين سنة تقريبا في التلفزيون الجزائري، القائمون على محطة MBC كانوا محظوظين أنني التحقت بهم بحكم أنني صاحب تجربة طويلة في المجال السمعي البصري، وبسرعة فائقة أصبحت رئيس تحرير ومقدم أخبار ومراسل في وقت كان تعدد الاختصاصات جد محدود في القناة، عشر سنوات في لندن كانت كافية لتحفزني على العودة إلى أرض الوطن بعد أن بدأت الأوضاع الأمنية في الجزائر تعود إلى سابق عهدها وذلك في بداية 2003، إلا أن عودتي لم تعمر طويلا فسرعان ما اتصل بي القائمون على قناة أبو ظبي الإخبارية راجين مني العمل معهم في وقت كانت الأوضاع في منطقة الخليج لا تبعث على الارتياح، ترددت في بداية الأمر لكنني لبيت الطلب في النهاية، عندما وجدت نفسي عديم الحركة وبعيدا عن مجال حيوي شكل كل حياتي. العمل في قناة أبو ظبي كان هو الآخر تجربة رائدة ومنعرجا آخر في حياتي المهنية، والإعلامي الحقيقي هو الذي يتعلم دائما ويكتسب المزيد من الخبرات على مر الأيام والسنوات، ومهما تقدم به العمر، وهكذا مرت عشر سنوات أخرى في الخليج، بعدها لم أعد أحتمل العمل أكثر والبقاء خارج الوطن .
*ما الذي تغير في محفوظ بن حفري بعد هذه المدة الطويلة في الغربة؟ تغير الكثير في نظرتي إلى الحياة بحكم معاشرة مجتمع وأناس آخرين من كل الأطياف والجنسيات إلى جانب السفر الدائم، أما في ما يخصني كإنسان فأنا على طبيعتي ابن بلدكما يقال، فتربية والدي ووالدتي أعتز بها، فهي التي مكنتني من مواجهة نوائب الزمن وتخطي الصعاب والثبات عندما تهتز الأرض تحت قدماي، فكما ذهبت رجعت وأنا احتفظ بالمزاج نفسه، لكن للأسف وجدت الأمور قد تغيرت نوعا ما خاصة من الناحية الأخلاقية والاجتماعية، وتكاد صورة ذلك المجتمع الذي تركته تنمحي من ذاكرتي من هول التحولات التي طرأت خلال عشرين سنة من الغياب، ناهيك عن العشرية السوداء وما أفرزته من سلبيات. أنا لا أنكر أنني تأثرت ببعض القيم التي يتحلى بها المجتمع البريطاني كالأمانة والإخلاص والصدق واحترام الغير، وهي القيم التي بدأت تتلاشى شيئا فشيئا من مجتمعنا رغم أن ديننا الحنيف يعتبرها دعامة لشخصية الفرد المسلم، ومع ذلك صدقني لو عشت قرنا من الزمن مع قبائل الإسكيمو في القطب الشمالي لرجعت بنفس مواصفات محفوظ بن حفري التي جبل عليها، لأن التربية لما تكون حقيقية وراسخة لا تؤثر فيها شوائب قد تعلق بها. حاورته: سناء بلال