رمضان بأجوائه الروحية، ورحماته التي تتوالى، وأنواره التي تفيض بها أيامه ولياليه، يشكل فرصة للعبد المؤمن المذنب المقصر في حق نفسه ومولاه – وكلنا ذلك العبد – في رفع منسوب الرجاء في كرم خالقه، كي يكرمه بالعفو في شهر العفو، وتشمله الرحمة في شهر الرحمة، وينال المغفرة والعتق في شهر العتق، فالأبواب فيه مشرعة، والأجواء مناسبة، والنفوس مهيئة، والوسائل مساعدة، ونفحات الله عز وجل تخطب المتعرضين لها ليخرجوا من درك الشقاء إلى أبد الآبدين، فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"إِنَّ لِرَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا، لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ مِنْهَا نَفْحَةٌ لا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا"- (رواه الطبراني)، فأقبل على مولاك برجاء الواثق في القبول والعفو ولا تخشى كثرة ذنوبك، فهو الذي خاطبك بقوله: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾- (سورة الزمر: الآية 53)، وهو الذي قال لك في حديثه القدسي، عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ:" قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً"- (رواه الترمذي)، فمهما كانت معاصيك فلن تكون بأسوأ حال من الذي قتل مئة نفس، ولكن لمّا أقبل على مولاه بصدق، وفرّ إليه برجاء، قبله وتاب عليه وغفر له وأكرمه وختم له بالخير. فعن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا، فهل له من توبة، فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة، فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصَفَ الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط، فأتاهم ملَكٌ في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة"-(رواه مسلم). فأحسن الظن بمولاك وأرجوه رجاء الواثق وأنت في موسم الرجاء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ هم خير منهم، وإن تقرب مني شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"-(رواه مسلم)، وكن على يقين ممّا ذكره الإمام علي رضي الله عنه:"من أذنب ذنبا فستره الله عليه فالله أكرم من أن يكشف ستره في الآخرة، ومن أذنب ذنبا فعوقب به في الدنيا، فالله تعالى أعدل من أن يثني عقوبته على عبده في الآخرة".