تطرّق الشيخ محمّد المأمون القاسمي، في حوار مطوّل مع يومية "الحوار"، إلى كثير من القضايا الدينية المفصلية الراهنة، أثار بعضها اللبس في وسط الرأي العام الجزائري، على غرار مواقيت الصيام والصلاة، ويوم العيد. كما تحدّث ضيف "الحوار" عن قضايا أخرى ذات صلة بالمرجعية الدينية للمجتمع الجزائري، والمخاطر الّتي تهدّد وحدته وتماسكه وانسجامه؛ معرّجا في الوقت نفسه على موقفه من بعض المسائل العربية والإسلامية، مثل مستجدّات القضية الفلسطينية. * ما رأيكم في الضجّة التي أثارها بعض الفلكيين حول المواقيت الشرعية للصلاة والصيام؟ – في الواقع، ليست هذه المسألة بالجديدة، ربّما ظهرت هذه السنة، بشكل أوسع، وأثارت حولها الجدل. المواقيت الشرعية، سواء تعلّق الأمر بالصلاة، أو بتحديد أوائل الشهور العربية، والمواسم والأعياد الدينية، تعدّها الوزارة الوصية المسؤولة على قطاع الشؤون الدينية، بناء على تقرير مفصّل، ينجزه المرصد الفلكيّ في الجزائر، كلّ عام؛ وهو تقرير علميّ دقيق، يعتمد الحساب؛ ويراعي في الوقت نفسه قاعدة "إمكان رؤية الهلال"، التي أقّرها مؤتمر وزراء الشؤون الدينية والإسلامية والأوقاف، في البلدان الإسلامية، الذي انعقد في الكويت، سنة 1972م؛ وشارك في أشغاله علماء في الشريعة والفلك. وقد أقرّ مبدأ العمل بالحساب الفلكي، في تحديد أوائل الشهور العربية، مع اعتماد قاعدة "إمكان رؤية الهلال"؛ وحدّد المؤتمر البعد الزاوي لموقع الهلال الذي تمكن رؤيته بثماني درجات زاوية، على الأقلّ، يكون عليها الهلال في الأفق، بعد غروب الشمس. وما دون ذلك لا يعتبر الهلال شرعيا، وإن ولد في النهار، لأنّ رؤيته تكون متعذّرة، في هذه الحال. فقد يولد الهلال في ساعة متأخرة من النهار، وتكون عملية الاقتران متأخّرة. وهكذا يكون مكوث الهلال في الأفق، بعد الغروب، لمدّة قصيرة؛ مما يجعل رؤيته مستحيلة. ومن هنا، كان الاختلاف بين بلد يعتمد الهلال الفلكي، ويعتبر دخول الشهر بمجرّد تحقّق ولادة الهلال، وبين بلدان، منها الجزائر، تعتمد حسابا يقوم على قاعدة "إمكان رؤية الهلال". والجزائر كانت واحدة من بين عشر دول إسلامية، فيها مراصد فلكية، اعتمدت هذه القاعدة. وتشكّلت من هذه الدول العشر لجنة كانت تجتمع كلّ عام؛ وتصادق على تقرير مشترك، تستخلصه من تقارير المراصد العشرة. ومنها المرصد الجزائري العريق، الذي كانت تقاريره في منتهى الدقّة؛ وتتوافق مع بقية التقارير الّتي تعتمدها اللجنة المذكورة في التقويم الإسلامي الموحّد. أذكر ذلك جيّدا، وقد كنت أشرف وقتها على مصلحة الشعائر الدينية، بصفتي مديرًا للتوجيه الديني. لقد كانت الإرادة والغاية من هذا المسعى توحيد أوائل الشهور العربية في البلاد الإسلامية، والتزام هذه الدول بالتقويم الإسلامي المعتمد، لتتوحّد الأمة جمعاء، في صومها وإفطارها، وفي بقية أعيادها. والجزائر، من جهتها، التزمت مع دول أخرى بهذا التقويم الموحّد، واعتمدته سنوات طوالا. ثم بدأ يظهر الاختلاف وسط عائلات جزائرية أصبح بعض أفرادها يتّبعون بلادًا أخرى، يصومون معها أو يفطرون. ومع تنامي هذه الظاهرة، عادت بلادنا إلى تحرّي رؤية الهلال؛ وأصبحت لجنة الأهلّة هي من تعلن ثبوت الرؤية أو عدمها. * في رأيك.. ما هو السبب في اتّباع هؤلاء بلادًا أخرى، في الصيام وفي العيد، وعدم التزامهم بالمواقيت المقرّرة في الفجر والمغرب؟ الذين يفضّلون اتّباع بلاد أخرى، في مواقيت الشعائر الدينية، يفعلون ذلك عن جهل، ويقلّدون فئات خلفياتهم صنعتها التيارات الدخيلة. وهؤلاء يشكّكون في تقويم شرعيّ تعدّه مؤسّسات دينية وعلمية متخصّصة. المواقيت الشرعية تعدّ بدقّة، كما أسلفت؛ وهي تخصّ جميع مناطق البلاد، من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب. وهذه المهامّ من اختصاص المؤسّسات المعنية، ومن صلاحياتها؛ ولا عذر لمن يتطاول عليها، أو يطعن في مصداقيتها. والإعلام له دور مهمّ في هذا المجال. المطلوب منه أن يوضّح الحقائق للناس؛ ويسهم في بثّ مزيد من الوعي في المجتمع. فحبّذا لو تخصّص للموضوع برامج منسّقة في مؤسّسات الإعلام، تتضمّن ندوات وحوارات تخصّص لهذا الموضوع، يُدعى إليها العلماء والخبراء، حتى يرفع اللَبس، وتصحَّح المفاهيم المحرّفة، وتفنَّد المعلومات المغلوطة. وكما يجب علينا أن نتصدّى لكلّ فكر متطرّف، وخطاب مفرّق؛ فإنّ علينا كذلك أن نتصدّى لكلّ كلمة مضلّلة، وصورة مضلّلة، من شأنها أن تقلب سلّم القيم، فيصبح بها المعروف منكرا، والمنكر معروفا، ويصير الحقّ باطلا، والباطل حقا. وهذا ما هو شائع في عالم الاتصال والإعلام، في واقعنا الراهن. * في خرجة أخيرة، قال عالم الفلك لوط بوناطيرو إنّ عيد الفطر المبارك سيكون يوم الجمعة في 15 من الشهر الجاري.. فما مصداقية هذا التاريخ؟ – هذا التاريخ حدّده التقويم الشرعيّ، الصادر عن وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، في ضوء الحساب الذي أعدّه المرصد الفلكي، مع اعتماده القاعدة التي وضّحتها آنفا؛ ويبيّن الجدول السنوي للمواقيت أنّ أيام رمضان هذا العام تسعة وعشرون يوما؛ ومن ثمّ فإنّ عيد الفطر يكون يوم الجمعة، بإذن الله. أمّا مسؤولية إعلان يوم العيد، وإثبات رؤية الهلال من عدمه، فتعود إلى لجنة الأهلّة، الّتي تتلقّى تقارير الولايات، بعد تحرّي رؤية الهلال، ليلة الشكّ، ثبوتا أو عدما. * كيف حدّدت الزكاة لهذه السنة؟ لعلّك تقصدين صدقة الفطر؛ وهي تختلف عن زكاة الأموال التي تؤخذ من الأغنياء، وتردّ على الفقراء. فزكاة الفطر هي زكاة الإنسان عن ذاته، هي تطهير للإنسان، وجبر لما كان في الصوم من نقص؛ وتشترك في إخراجها الأمّة قاطبة؛ فهي واجبة على كل مسلم ومسلمة، كبيرا أو صغيرا، غنيا أو فقيرا؛ ومقدارها صاع من غالب قوت أهل البلد، التي قضى فيه شهر الصيام. وغالب القوت في بلادنا هو الدقيق؛ وعلى أساسه يحدّد ثمن زكاة الفطر، التي أجاز العلماء إخراجها نقدًا، لتَحَقُّق المصلحة. وقد حدّد مبلغها هذا العام بعشرين ومائة دينار (120دج). * ما تعليقكم على الخرجات الأخيرة للتيار المدخلي في الجزائر؟ هذا تيار وافد إلينا، دخيل على وطننا، غريب عن مجتمعنا، مفرّق لجماعتنا. هو عنوان جديد لمنهج قديم، لطالما نبّهنا إلى ضرره وحذّرنا من خطره. إنها عناوين مختلفة للوهابية. هي لها ثياب تتجدّد، وفروع تتعدّد. وما حلّت بأرض إلاّ أصابها شرّها، وظهر ضررها. وهي، دون ريب، تلحق الضرر بوحدة المجتمع الجزائري وانسجامه. هذه الوحدة الدينية الجامعة، المتمثّلة في عقيدة الأشعري، وفقه الإمام مالك، وفي التصوّف السنّي، على طريقة الجنيد السالك؛ كما يلخّص ذلك الإمام عبد الواحد بن عاشر، في بداية منظومته المعتمدة في العالم الإسلامي؛ حيث بيّن منهجه في هذه المنظومة بقوله: في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك. تلكم هي مرجعيتنا الدينية الموحّدة. هي مرجعية الجزائر، منذ أن أنارها الإسلام بنور هدايته؛ وهي لنا حصانة ذاتية، عبر العصور والأجيال؛ وصمّام أمان من كلّ غلوّ أو تطرفّ أو انحراف. * في السياق ذاته، عرفت الفترة الأخيرة تنامي ظاهرة الطائفية في الجزائر. فما هي انعكاساتها على مرجعيتنا الدينية في رأيكم، وهل هي تابعة لأجندات خارجية؟ كثيرا ما سمعنا من إخواننا في المشرق من العلماء، في مصر والشام، وفي العراق والحجاز، يتحدّثون بتقدير كبير عن نعمة الوحدة الدينية في بلادنا، وغياب الطائفية بين ظهرانينا. نلتقيهم في مؤتمرات دولية، فيعبّرون لنا عن هذا المعنى، ويقولون: احمدوا الله على نعمة خصّكم الله بها، ونحن نفتقدها. يقولون لنا: احذروا أن تفرّطوا في هذه الوحدة الدينية التي تتميّزون بها؛ وانظروا إلى حال المجتمعات الإسلامية في المشرق العربي والبلدان الآسيوية. انظروا إلى تفرّقها وانقساماتها، والنزاعات المتفاقمة بين أبنائها. وما كان ذلك إلاّ لتمزّقها طوائف شتّى، ومذاهب فقهية متعدّدة. وأنا أعتقد بالفعل أنّ التيارات الدخيلة، إذا لم ندرأ خطرها، فإنها ستحدث فينا، لا سمح الله، هذا التمزّق الطائفي، والتشرذم المذهبي. وفي ذلك خطر محقّق على وحدة المجتم وتماسكه وانسجامه. ولكي نصون مجتمعنا، ونقيه شرّ هذه المخاطر، علينا أن نغيّر السياسة التي سلكناها في الماضي؛ حيث كان التغاضي لمدة طويلة، بل والاستهانة بالعمل الهدّام للتيارات المتطرّفة التي تنشط في الساحة الدينية؛ وأثارت فتنا مازلنا نعيش تداعياتها في مجتمع فقد الرؤية الصحيحة، في سنوات المحنة؛ وكادت تعصف به الفتن، لولا لطف الله وعنايته. إنّنا اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، بحاجة إلى توحيد الجهود وتكاملها بين المؤسّسات المعنية؛ حفاظا على أمننا الفكريّ، وانسجامنا الاجتماعيّ ودرءا لكل خطر يهدّد وحدتنا الدينية والوطنية الجامعة. أما السؤال عن التأثيرات الخارجية، فنحن لا نشكّ أنّ هذه التيارات الدخيلة، ومنها الفرق الضّالة، كالأحمدية، وإن لبست لباسا دينيا، لها ارتباط بجهات أجنبية، وتعمل لأهداف ومصالح أجنبية. فما الظنّ بحركة أو تيّار أو تنظيم يكفّر السواد الأعظم من المسلمين؟ ومن المستفيد من فتنة التكفير سوى أعداء المسلمين. لا ريب أنّ هذه التنظيمات جميعا تخدم مشاريعهم، وتنفّذ مخطّطاتهم. لقد قلت في خطبة ألقيتها بعد أيام من إعلان التنظيم الإجرامي، المسمّى "داعش": إنّ داعش وأخواتها، في الواقع الراهن، وأمّهاتها بالأمس، مصدرها واحد ومرجعيتها معروفة. وهذه التنظيمات، على اختلاف عناوينها، ما هي إلاّ صناعة مخابراتية، وراءها اليهود وأشياعهم. تخطّط لها مراكز الدراسات المتخصّصة في الغرب، ثم يوكل أمر التنفيذ إلى الحلفاء والوكلاء في بلاد المسلمين. والنتيجة ما نراه في واقع المسلمين. حروب ودمار وخراب. المسلمون يتقاتلون. تزهق أرواحهم، وتدمّر بلدانهم وتُسلب ثرواتهم. أعداؤهم يكيدون لهم ويمكرون بالليل والنهار، وهم في غفلة معرضون. قوى الاستكبار العالمي تفرض إملاءاتها على دول إسلامية سلبتها إرادتها وانتهكت سيادتها. ومن العجب أن نرى دولا عظمى تزعم أنها تكافح الإرهاب، وهم صانعوه. يزعمون أنهم يعملون لتسوية النزاعات الإقليمية والمحلية، وهم الذين يؤجّجون نارها، ويغذّون الحروب بأسلحتهم الفتّاكة التي يسوّقونها لأطراف النزاع. والعجيب أنّهم يتحدّثون عن مكافحة الإرهاب وتجفيف منابع تمويله. يتحدّثون عن التنظيمات الإرهابية، ولا يشيرون بكلمة إلى مراجعها الدينية، أو مصادره الفكرية. وهكذا هم أعداء الإسلام. فهم جميعا، وإن تباينت اتّجاهاتهم، واختلفت مصالحهم، يتحالفون لضرب أمّة الإسلام، يريدون ضرب الإسلام من داخله. ويجنّدون لتنفيذ مخطّطاتهم من يوالونهم من المنتسبين إلى الإسلام، الذين خانوا الله والرسول، وخانوا أماناتهم. غلبتهم شهواتهم وأهواؤهم، وضلّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }التوبة/32.