تَحَدَّثَ الكاتبُ الشَّهير علي زيعور في كتابه” التّحليل النفسي للذّات العربية” على أنّه حَلَّلَ خطَبًا عربيةً سيّاسيّةً حديثةً كثيرةً، مُختلفةَ المناسبات والخطباء،من حيث المضمون والشكل، فوجد أنّها مُفْعَمةٌ بالسجع والقصص، وبالألفاظ الطنّانة الدائرة حول نفسها، ووجد أنّ هذه الخطبَ تُكَرِّرُ اللفظَ ومُرَادفَه عشرات المرات للإقناع بفكرة سطحية جدّاً،لا تتطلب إعمال أيّ جهد، تحتلُّ العاطفةُ فيها المركز الأوّل، ويكون الإنسان فيها غير أساسي.. حينما قرأتُ هذا التوصيف، شعرتُ وكأنّ التاريخَ يُعيدُ نفسَه، أو هو متوقِّفٌ منذ صدر الإسلام الأوّل، حيث إنّمن يستقرئ الحقول الدّلالية للخطب السيّاسيّة العربيّة ، منذ فجر التّاريخ العربي، يلاحظ أنّها في أغلبيتها السّاحقة، تصاغ بشكلمكرّر، وكأنّها في مجملها نسخ طبق الأصل عن بعضها، لا أفكارَقويّةً فيها، تستعيض دائما على فقر الأفكار والقِيَمِ بجهاز بلاغيٍّ مضخّمٍ جدّاَ، مليئة بالصور البيانيّة والمحسِّنات اللفظيّة، تُكَرِّرُ اللفظَ ومرادفَه عشرات المرات، وكأنّ نمَوْذَجَها المثالي هي خطبة الحجّاج بن يوسف الثّقفي،أو الخطبةُ البتراء لزياد بن أبيه، فلْنُلاحِظْ فَخَامَةَ الكلمات، وكثرةَ التّكرار، وتضخّمَ الأنا عند الخطيب، والتّهديد والوعيد، واحتقار السّامع وقمعه،في قول الحجّاج، مثلاً:(.. أنا بن جلا وطلّاع الثنايا.. متى أضع العمامة تعرفوني..) (..أما والله فإنّي أحمل الشرَّ بثقله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله..) (.. يا أهل الشقاق، والنفاق، ومساوئ الأخلاق..) (.. إنّي أرى رؤوسا قد أينعت وقد حان قِطافُها، وإنّي والله لصاحبُها!..) (..إنّكم لطالما أوضعتم في الفتن، واضطجعتم في مضاجع الضلال، وسننتم سنن الغي..)(.. والله، لَأَعْصِبَنَّكُمْ عَصْبَ السَّلَمَةِ، ولَأَلْحُونَّكُمْ لَحْوَ العصا، ولأقْرِعَنَّكُمْ قرعَ المروة، ولَأَضْرِبَنَّكم ضربَ غرائب الإبل!..)..أو في قول زيّاد بنأبيه: (.. أمّا بعد، فإنّ الجهالةَ الجهلاء، والضلالةَ العمياء، والغيَّ الموفي بأهله على النّار، ما فيه سفهاؤكم ويشتملُ عليه حلماؤكم من الأمور العظام، التي يَنْبُتُ فيها الصغير، ولا يتحاشى عنها الكبير..) (.. وَأَيْمُ الله إنّ لي فيكم لصرعى كثيرين، فليحذر كلُّ امرئ منكم أن يكون من صرعاي!..) في مثل هذه الخطابات كلُّ النّاس تُساقُ بعصا واحدة، فلا فرق بين سفيه أو حليم، صغير أو كبيرأمام لغة العصا!..