إن المتتبِّع للنّقاشات التي تدور في السّاحة الجزائريّة اليوم، سواءً في مواقع التواصل الاجتماعي أو في وسائل الاعلام، يمكنه أن يلمس سطحيّة التناول الفكري للقضايا الوطنيّة الكبرى، ففي الوقت الذي كنّا نطمح فيه إلى سيطرة الفكر النّقدي بمفهومه العلمي، الذي تسيطر عليه الموضوعيّةُ والدِّقّةُ والصّراحةُ، نظراً لأنّنا من أغنى الدّول بالكفاءات العلميّة في مختلف الميادين، ونظراً لأنّنا نمتلك ما يفوق مائة مؤسّسة للبحث العلمي والتكوين العالي، ففي كلّ ولاية جامعة، وقد نجد أحيانا في ولايةٍ واحدة عدّة جامعات، إلّا أنّنا لا نجد أثرا كبيراً لهذه المؤسّسات العلميّة الكثيرة على مستوى نقاشاتنا اليوميّة، على الرغم من أنّنا نرفع شعار “الجامعة في خدمة المحيط” منذ سنوات طويلة،فها نَحْنُ نشهد يوميّا في منابرَ كثيرةٍ معاركَ من السِّباب والصّراخ الذي لا يمتُّ للنقاش العلمي بصلة.. ففي كلِّ يومٍ تَنْسَاقُ عَشَراتٌ من النّخب السيّاسيّة والثقافية والاعلاميّة إلى النقاش على طريقة “مَعْزَة وَلَوْ طَارَتْ!..” كما ينبري بعضُ الكتّاب والأكاديميين والإعلاميّين والسيّاسيّين إلى نقاشاتٍ في وسائل التواصل الاجتماعي،على طريقة خُطباء القبائل أو شعراء النّقائض، حتّى إنَّ نقاشاتهم تتحوّل في كثيرٍ من الأحيان إلى منابر للهجاء، وتكادُ تخلو من الإبداع والأفكار والاقتراحات الموضوعيّة.. لقد فَقَدَتْ بعضُ النُّخَبِ الموضوعيّةَ بفعل العصبيّةِ المتولِّدة عن الاستقطاب الحادّ، الذي قادَها إلى منطق الاصطفاف الايديولوجي أو الجهويّ أو الفئويّ أو العِرقيّ وحتى القبليّ البائد، وهو منطق لا يبني الدّول القويّة، التي يجتمع أبناؤها على أساس المواطنة وحدها، دون اعتبارٍ لأيِّ عصبيّةٍ أخرى..إنّ النِّقاش العلمي يقتضي الموضوعيّة، أي التّركيز على موضوع النّقاش، وتبادل الأفكار حوله، والاجتهاد في ترجيح وجهات النّظر، من خلال الأدلّة المسندةِ بالتّحليل والنّقد العلمي والمقارنة والاستشراف والاسقاطات الواقعيّة، وغيرها من المهارات المؤدّيّة إلى الإقناع العلمي، غير أنّ نقاشاتنا في الواقع كثيراً ما تنحرفُ نحو الذّاتيّة التي تُركِّز على الأشخاص، بدلاً من التركيز على الموضوع والأفكار، ولذلك فهي كثيرا ما تنحرفُ إلى الخوض في الأعراض والقضايا الشّخصيّة والعائليّة والملفّات الخاصّة للأشخاص والعودة إلى النّبش في الماضي، ومنه تتحوّل جُلُّ النقاشات إلى حَلَبَةٍ للسِّباب والخوض في القضايا الشخصيّة، وهو الأمر الذي قد يؤدّي إلى تفشّي الأحقاد، وإلى التهييج العاطفي الذي تَنْجَحُ معه سيّاسةُ “فرِّقْ تَسُدْ” بامتياز.. وتكون النتيجةُ ضياعُ الأفكارِ الكبرى، وضياعُ الأهدافِ الكبرى، وضياع آمالِ الملايين في قيام دولةٍ ديمقراطيّةٍ قويّة وعادلةٍ، بسبب الأنانيّات والانتصار للذّاتيّة على حساب الموضوعيّة، إنّنا اليوم في حاجةٍ إلى مُفكّرين هادئين وإلى عُقَلاء، لأنّ في مجتمعاتنا من ثقافة الأحقاد ما يكفي لإثارةِ حُرُوبٍ طويلة..حَذَارِ إنّ السِّباب ليس فِكْراً يَبْني الدّول.