إنّ المتتبِّعَ للتًجاذبات التي تُحدِثُها الموضوعاتُ المتعلّقةُ بالتّاريخ الوطني أثناء النّقاش العام، يُدرِكُ حقّا أنّ هناك خللا كبيرا في علاقة الفرد الجزائري بالتّاريخ، وأنّ هناك فوبيا جزائريّة من التّاريخ، على غرار الإسلاموفوبيا الموجودة في الغرب.. يتجلّى ذلك من خلال الاستقطاب الحادّ الذي أصبح يُقسِّم النّخب الجزائريّة، كلّما طُرِحَ موضوعٌ هامٌّ للنّقاش، يتعلّق برمز من رموز التّاريخ الوطني القديم أو الحديث وحتى المعاصر، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر، ما تّم إثارتُه في الأيّام الأخيرة من نقاش حول شخص الأمير عبد القادر، وما تمّ تداولُه في السنوات الماضية حول شخص الإمام عبد الحميد بن باديس، وما تمَّ تداوُلُه حول جمعيّةِ العلماء المسلمين، ودورِها في النّضال الوطني من أجل الاستقلال، وينسحب الأمر حتى على بعض القضايا المتعلّقة بالثورة الجزائريّة، وبعض الفاعلين الأساسيّين فيها، ولاشكّ أنّ الأمثلةَ كثيرةٌ أيضا إذا نبشنا في تاريخنا القديم، خاصّة إذا أثرنا موضوعَ العرقيّات وتحدّثنا عن العرب والأمازيغ، أو تحدّثنا عن موضوع اللغة والهُويّة.. ومن الأمثلة الدّالّة على العبث بالتّاريخ، كذلك، ما أثاره موضوع الاكتشاف العلمي الجديد الذي أثْبَتَ أنّ الجزائر هي ثاني أقدم موقع للإنسان على سطح الأرض، بعمقٍ تاريخيٍّ يعود إلى مليونين وأربعمائة ألف سنة، حيث أنّ هذا الحدث لم يأخذ من الاهتمام ما تأْخُذُهُ مباراةٌ لكرة القدم في الفِرَق المحليّة، أو ما يأخذه حفلٌ غنائي لفنّان من الدرجة الثالثة أو الرّابعة في الجزائر، ولو كان هذا الحدثُ عند أمّة أخرى لأخذ من التّفاعل الايجابي،والدّعاية الاعلاميّة، والتّرحاب الشعبي والرسمي الشيءَ الكثير.. قد يكون الخللُ راجعاً إلى طريقة كتابةِ وتعليمِ التّاريخ عندنا، حيث نُلقِّنُهُ إلى النّاشئة على شكل أحْداثٍ نهائيّة مُقدَّسةٍ، تُحفَظُ على ظهر قَلْبٍ دون نقاش ودون تَحليلٍ أو تمحيص، وبطريقةٍ تُمَثِّلُ وجهةَ نظرٍ واحدةٍ، ليس فيها تَنَوّعٌ،أو ثراءٌ ثقافيّ أو تعّدُّدٌ فِكريّ، أو حتّى تعدُّدٌ في المصادر، بحيث يَجِدُ فيها كلُّ الجزائريين ذَواتِهم وبَصَمَاتِهم ومشاربَهم الفكريّةَ والاثنيّةَ.. ولذلك فبمجرّد أن ينتبهَ أحدُ الأطراف إلى وجود إقصاءٍ يتعلّق ُببعض خصوصيّاته الثّقافيّة، حتى يَكْفُرَ بالتّاريخ الوطني كلِّه، ويضرب به عرض الحائط جُمْلةً وتفصيلاً، ويرفع الشِّعَارَ القاسي الذي رَفَعَتْهُ جِهَةٌ ما في شوارع العاصمة ذات يوم، على لسان فئة من الطّلبة قائلين: التّاريخُ إلى المَزْبَلَة!..والخلاصةُ أنّنا أصبحْنا نُبْدِعُ في تَخْريجِ أجيالٍ لها كفاءاتٌ عاليّةٌ جدّا في جَلْدِ الذّات، وهجاء التّاريخ،حتّى أصبح الفردُ الجزائريُّ يُنَافِسُ الحُطَيْئَةَ في الهِجَاءِ الذّاتيّ، لأنَّ الحُطَيْئَةَ هَجَا حتّى أُمَّهُ، حيث قال: جزاكِ اللهُ شَرّاً من عَجُوزٍ… ولَقَّاكِ العُقوقَ من البَنِينَا حَياتُكِ ما علِمْتُ حياةَ سُوءٍ… ومَوْتُكِ قَدْ يَسُرّ ُالصَّالِحِينا وعندما لم يَجِدْ أَحَداً يَهْجُوهُ هَجَا زَوْجَتَهُ وأَوْلادَه وهَجَا نفسَه، قائلاً: لا أَحَدَ أَلْأَمَ من حُطَيَّهْ.. هَجَا بَنِيهِ وهَجَا المُرَيَّهْ مِنْ لُؤْمِهِ مَاتَ عَلَى فَرِيَّهْ