يرى النّقّادُ الثّقافيّون أن وظيفة النقد ليس مجرد تمرينات لاستخراج المحسّنات البديعية ووجوه البيان من النص، وتقسيمه إلى مستويات نحوية وصرفية وصوتية وتركيبية ومعجمية، بحثا عن انسجام النص واتّساقه، وجرياً وراء جماليةٍ بلاغيّةٍ متعاليةٍ عن السيّاقات الإنسانية، بشكل بارد ومحايد لا يتجاوز نسيجَ النص ومعمارَه… بقدر ماهي قِراءةٌ حَفْرِيَّةٌ ذكيّة، تهتمُّ بنقد الأنساق المُضْمَرَة المشكِّلة للنّصوص والبحث عن الثّقافة المؤسِّسة لها، كما أنّ النّقد الثّقافي يستكشف -من خلال تحليل الخطابات- الأعطابَ الثقافيةَ والنّفسيّةَ والاجتماعيّةَ، التي تُخلّفها المصادرُ المختلفة للأعلاف الثقافيّة التي تَسْتَهْلِكُهَا الشعوبُ، إضافةً إلى أنّه لا يهتمُّ بالنّصوص المدرسيّة الرَّاقيَّةِ فقط، بل يهتمّ بالخطابات اليوميّة وحتّى الهامشيّة أيضا، ويبحث في خلفيّاتها،ومخبوءاتها الفكريّة، ودلالاتها الاجتماعيّة والنّفسيّة، وسيّاقاتها المختلفة، ولذلك فهو يستفيد إجرائيّاً من كل منجزات العلوم الإنسانية والاجتماعيّة إلى جانب علم الجمال.. وأنا أتابع هذه الأيّام تصريحات بعض المترشِّحين للرّئاسة، تمنّيت أن يستخدم نقّادُنا النّقدَ الثَّقافي، لترشيد الخطاب السيّاسي، حتّى لا تتكرَّرَ عندنا مثل التصريحات (السيّاسيّة؟!..) التّالية: تصريح رئيس حكومة أسبق، عندما ضَرَبَ مِثَالاً عن الشعر ب: “قل أعوذ برب الفلق”!…وتصريح أمين عام سابقٍ لحزبٍ كبيرٍ من أحزاب الموالاة، عندما قال: “نحن أفضل من السويد في التنميّة!..” ومثلها تصريحُ وزيرٍ سابقٍ للصحة قائلاً: “المستشفيات عندنا أفضل من المستشفيات في أمريكا” وتصريح وزيرٍ سابقٍ للتّعليم العالي قائلاً: “لا حاجة لنا بجائزة نوبل!..” أو تصريح وزيرٍ سابقٍ آخر للصحة، عقب وفاة أستاذة من جامعة ورقلة بلسعة عقرب قائلاً: “العقرب مُسالِمٌ وهو لا يظلم الإنسان!..” وهو ما يوحي ضمنيّا أن الأستاذة هي التي ظَلَمَتْ العقرب!.. وكذلك تصريح أحد الوزراء السّابقين، قائلاً: “ربي أرسل محمداً رحمةً للعالمين، وأرسل بوتفليقة رحمةً للجزائريين!..” وتصريح أحد الولاة إلى الأئمّة، ناصحا إيّاهم: “تحدثوا عن أبو نظافة دَعْكُمْ من أبي هريرة!..” وتصريح أحد نوّاب رئيس البرلمان سابقاً: “مَا وَلْدَاتُوشْ أُمُّو لي ينافس بوتفليقة!..” وتصريح الأمين العام للاتحاد العام للعمّال الجزائريين السّابق: “اللي يخرج يحتج يوم الجمعة ماهوش راجل!..” وقوله أيضا: “ماشي راجل لي ما يفوطيش على بوتفليقة!..” وتصريح وزير سابق للتّجارة ورئيس حزب من أحزاب الموالاة: “يلعن بوه اللي ما يحبناش!..” و كذلك تصريح رئيسٍ سابقٍ للحكومة قائلاً: “الشّعب ما لازمش ياكل اليايورت!..” كما صرَّح أيضا: “جَوِّعْ كَلْبَك يَتْبَعْك!..” ويقصد الشعب طبعا!.. أتمنّى أن يضطلع النّقّادُ الثَّقافيّون بمسؤولياتهم، حتّى يساهموا في رفع مستوى الخطاب السيّاسي، لعلَّنا نَتَجَنَّبُ انتاجَ نفس الظّواهر والخطابات السَّابقة.