إذا كنت حسبت أنك أمام أخصائي نفسي .. إذا كنت تعرضت لمساءلة وصرحت بكل ما كنت تريد قوله وما لا تريد قوله .. إذا كنت تعرضت إلى تفتيش في جيوب رأسك ومحفظتك وذاكرتك، وأخرجت بوعي وبلا وعي كل خصوصياتك وتفاصيل عملك وحياتك .. إذا ارتبكت وتلعثمت لحظتك تلك، وتمنيت لو لم تكن وقتها هناك إذا كنت تتوجس خيفة من شخص أمامك، منهمك في تصويب أسئلته نحو عينيك وفمك.. إذا كنت تقاوم غصة سارعت لاحتلال حلقك، جراء ما كنت تتوقعه إذا كنت تتملى لحظتك.. مملوء بغبطة تتمنى ألا تنقضي .. إذا ضبطت لسانك يبحث عن تصريحات ليست كالتصريحات وينمق كلمات ليست كالكلمات .. إذا كنت سألت نفسك إن أعطيت للذي أمامك الصورة التي تحب عنك وعما أنجزته وتنجزه .. إن كنت ندمت عن كلمة قلتها وكلمة لم تقلها .. إن كنت تخوفت من ذكر اسم ما أو من عدم ذكر اسم ما أو التعرض إلى تفاصيل ما .. إن كنت استرجعت ذكريات قديمة وتأثرت حد البكاء إن كنت استعدت وقائع ومواقف سعيدة وتأثرت حد الفرح والابتهاج .. إذا كنت شعرت بالحرج أو أخذت تفتش عن مخرج حتى لا تتورط، وتقع في مطبات أنت في غنى عنها.. إذا كنت ترغب في ترميم علاقة ما، لا تريد أن تخسرها مع هذا أو ذاك .. إذا كنت تريد التقرب من هذا أو ذاك لغاية تعرفها وحدك. إذا كنت كذلك أو أكثر أو اقل .. فاعلم أنك بصدد إجراء حوار صحفي .. هذا الجنس من الكتابة الصحفية فيه ما يمكن أن يقال عنه الكثير .. وأهل المهنة أدرى بذلك .. لا يوجد صحافي ليست له حكاية أو حادثة طريفة ما مع شخصية أو أكثر أجرى معها حوارا صحفيا أو سجل معها أحاديث مباشرة .. الجلسة أو اللقاء المفترض بين الصحفي والشخص المحاور يبدأ بالنسبة للصحفي قبل أن يلتقي بمحاوره .. أي أن اللقاء يبادر به الصحافي عن بعد .. ولن يقترب الصحافي من ضيفه قبل أن يقوم بعملية بحث وتحرٍ وتفتيش عما اقترفته الشخصية المعنية من أفعال وأقوال في موقعها وفي مجال تخصصها، ولا يقصدها قبل أن يعرف عنها كل التفاصيل التي تمكنه من استحلاب كل ما يريد أن يعرفه منها وعنها .. وكل صحافي له طرقه ووسائله وحيله التي يستخدمها لاستنطاق الشخصية المحاورة . لا توجد تقنيات بعينها يمكن للصحافي اللجوء إليها حتى يأخذ كل ما يريده ويسمع كل ما هو بحاجة لمعرفته من محاوره .. المسألة في مهارة الصحفي وقدرته على ملامسة دواخل وسبر أغوار ضيفه، إما بأسئلة ذكية تجعله على قدر غير متوقع من البوح والإقرار بحقائق ومعلومات ما كان الصحفي ربما يطمع في الحصول عليها.. أو باستعمال أساليب الأخصائي النفسي التي تمكنه من النفاذ إلى قرار ضيفه بسلاسة ومرونة لغوية وملمحية.. المشكلة تقع فقط عندما يجد الصحفي نفسه أمام شخصية لا تملك القدرة على التعبير وإيصال أفكارها، وما تريد قوله، إما لضحالة ثقافية ولغوية أو لقلة فصاحة أو تحفظا وتكتما أن يجر عليها الكلام عواقب لا تحبها .. ولا شيء يتعب الصحافي مثل محاورة من لا يملكون معينا لغويا ولا رصيدا فكريا وثقافيا يمكنه من إضفاء حركية على الحوار وعلى جو اللقاء ككل .. أحيانا يخرج الحوار أعرج إن صح التعبير بسبب أسئلة الصحفي المسطحة، والتي تفتقر إلى الأبعاد المطلوبة فتأتي الأجوبة مقتضبة ومغلقة أو مفككة مرتبكة عائمة لا تدري بالضبط ما تعنيه، أي على شاكلة الأسئلة وأحيانا أخرى تعلو الأجوبة على الأسئلة فيأتي الحوار غير متكافئ، كأن توحي الأجوبة بقيمة وقامة صاحبها الفكرية واللغوية مقابل خواء وهزالة الأسئلة.. ومرات يأتي الحوار كسيحا أي لا هذا ولا ذاك ..لا الأسئلة أسئلة.. ولا الأجوبة أجوبة.. وهنا يخرج الحوار منكوبا بائسا فاقدا لأي معنى أو جدوى.. لو رجع كل صحافي نشيط إلى رصيده المهني لوجد علامات لامعة سجلها مع شخصيات حاورها فعلم وتعلم منها.. عندما تكون في حضرة قامة إبداعية أو فكرية أو سياسية أو غيرها يزدهي قلمك بشرف فكرها.. ونبوغ طرحها.. وإن كنت ملهما وتمتلك حسا إعلاميا وجماليا يطلع الحوار من بين يديك قطعة على قدر عال من القيمة والجمالية الصحفية .. من هم على دراية بمهنة المتاعب يعرفون بلا شك صعوبة تلك المواقف عندما يجدون أنفسهم متلبسين دور المحاور بكسر الراء والمحاور بفتح الراء .. نعم الصحافي أحيانا يضطر أن ينسج بنفسه الأجوبة على أسئلته إذا ما خرج من عند المحاور بورقة فارغة أو شريط تسجيلي فارغ وآخر لا شيء فيه .. يحدث أن يحتار الصحافي ولا يعرف ماذا يكتب بعد لقاء حواري مليء بالإيماءات والحركات والكلمات المتناثرة والردود المشوشة.. فلا يبقى أمامه إلا أن ينوب عن الشخص الذي حاوره فيلملم تلك النتف الكلامية، لينسج منها حوارا قابلا للنشر وللقراءة.. والكارثة هي أن أغلب المعاقين لغويا وثقافيا ينتمون إلى المجال الفني وحتى الثقافي، وبحكم مخالطتي لهذه الشريحة صادفت نماذج أقل ما يقال عنها أن وجودها في ذاك الموقع خطيئة، فتراها عاجزة عن إيصال فكرتها إن كانت لها فكرة أصلا.. ولا تحسن التعبير السليم لا بالفصحى ولا بالدارجة.. فتشعر أنك واقع في قلب مهزلة.. الحوار الناجح والممتع بالنسبة للصحافي هو ذاك الذي يتواصل فيه مع محاوره بانسياب لغوي.. وينخرط معه في لعبة فكرية يكتشف من خلالها الطرفان فضاءات وأشياء أخرى، ما كانت لتكون لولا الموهبة الحوارية المتبادلة، والحس التواصلي المتطور بينهما .. الكلام في هذه الموضوع على قدر كبير من الكثافة والتشابك، لذلك فهو جدير بأن يطرح للنقاش والجدل في ملف يتشرف ملحق الحوار ''الموعد الأدبي'' بالتطرق له في الأعداد القادمة، ولكل من له ما يقوله في الموضوع.. ونتعهد بنشر كل الآراء والأفكار التي تصلنا بمنتهى الأمانة والنزاه