طبيعة النفس البشرية وما جُبلت عليه في ''عهد الذر'' نأيٌ عن العنف ونزوع إلى السلم والسماحة والعفو، وإن توالت المؤثرات الخارجية التي تنكت على صفحة هذه النفس أغيارا وجدت عارضة، وما رُكِّبت أصالة في عهد التكوين . فإن عامل الوقت وطوائح الزمن كفيلة بنفض الران الفكري وضيق العطن الضارب بأطنابه على العقول والأفئدة، شبيهة بعوامل التعرية في الجغرافيا . ولكَم يُثلج الصدر وتنشرح النفس إذا آب حملة الفكر المتطرف إلى الحال الواجب أن يسود، من العودة إلى نبذ السلاح الذي شُهر خطئا في أوجه الإخوة المشتركين دينا ولغة وتاريخا، فدخلنا عشرية سوداء حمراء''اتخلط خزها مع ماها''، ووحدهم الذين عايشوا فترة الإرهاب يعلمون علم وعين اليقين أن فقدان عنصر الأمان في بلد ما كفيل بتعويق عملية التنمية إعاقة مستدامة، بل وطمسٌ للمحقق منها، وتضعضع وتراجعٌ إلى الدرجات التي لا تخطر على بال بشر. وهم ذاكرون أن الشجاعة أنواع أعلاها شجاعة الرأي، ''الرأي قبل شجاعة الشجعان...''، وأن يقوم السائر في تيار ما أو فكرة ما بمراجعة لمساره، معلنا توبته صريحة فصيحة عما بدر منه من أحكام وأخطاء ومطبات في حق الآخر، فهي شجاعة واعتراف يحمد لصاحبه. وعلى النقيض منه الذي لم ينبس ببنت شفة معتذرا عن دماء سالت أنهارا، يوم كان التيار العام تقوده عاطفة مافتئت أن انقلبت عاصفة أهلكت الحرث والنسل، والعجب أن بابها مفتوح للمصالحة، وطي صفحة الماضي الأسود سواد ليلها، لكن جرثومة العناد التي غطت على مرأى وسمع بعضٍ من موقدي جذوتها والنافخين في الرماد تأبى إلا أن تستمرئ المر وتستمر في طَرْق طُرُق الضلالة والغي، سائلين المولى أن يركب القطار من تخلف قبل الانطلاق وإعلان صفير المسير، فسيتبين للركب مدى صوابية الاختيار، والمجتنى الطيب من الثمار، ولو لم يكن من ثمرة إلا الذكر الحسن في الآخرين، ومسامحة الكلمى والموتورين ضحايا الفتنة العمياء لكفى، وإلا فلا يلومن أحد إلا نفسه.