محمد أرزقي فراد ferradrezki@yahoo.fr تتميز نهاية السنة الميلادية بإقدام العديد من المواطنين والمواطنات على المشاركة في الاحتفال بطرائق مختلفة تتأرجح بين الغلو والاعتدال، وكلما حلت هذه المناسبة بين ظهرانينا إلا واحتدم الجدال بين المقبلين على هذه الاحتفالات باسم التفتح ومسايرة العصر من جهة ، وبين الرافضين لها باسم المحافظة على الأصالة والشخصية الوطنية من جهة أخرى، وقد يشتد هذا الجدال حتى داخل الأسرة الواحدة فنرى أفرادها ينقسمون إلى معسكرين يتراشقان بالحجة والحجة المضادة على أمل تحقيق النصر في معركة المحافظة والتجديد. بيد أنه كثيرا ما ينزلق الجدال إلى " منطق القوة" بدل "قوة المنطق" فيلتجئ أحد الأطراف إلى فرض رأيه عنوة الأمر الذي يؤدي إلى تعكير هدوء العائلة إلى حين. إن الخوض في غمار هذه القضية يستوجب الالتفاتة إلى طبيعة المجتمعات البشرية التي تتميز بالحركية الدؤوبة في نزوعها نحو حياة أفضل، وتتغذى هذه الحركية من عاملين اثنين، داخلي ذاتي وخارجي موضوعي، وما من شك أن التوازن بين العاملين يوفر الاستقرار للمجتمع الذي يتطور بهدوء بعيدا عن الطفرة والهزات القوية التي قد تحدث تصدعات تهلك الهوية والإنية والأصالة. وهكذا فإن الرقي والتطور أمر ثابت لا مفر منه، وما من شك أن الدفاع عن الخصوصية الثقافية لا يتم بالانغلاق والجمود، فقد حدثنا التاريخ أن الشعوب المنغلقة مآلها إلى الزوال وعليه فإن حياة الأمم مرهونة بما أسماه المفكر الانجليزي "أرنولد توينبي" بنظرية "التحدي والاستجابة" التي تعني ضرورة مواجهة العقبات بدل الهروب منها، فالحياة هي في الصراع وفي مواجهة المشاكل وليس في الانكفاء والانزواء ، فقد قيل الحاجة أم الاختراع. وانطلاقا من هذه الخلفية الحضارية يحق لنا أن نتساءل هل نستطيع أن نتفادى الاحتفال بأعياد رأس السنة الميلادية النابعة من رحم الحضارة المسيحية؟ بالنظر إلى حالتنا الحضارية المتميزة بالتخلف جراء تعطيل العقل، والتي تقابلها حالة نشاط و حيوية لدى "الأخر" وبالنظر إلى القانون الطبيعي المجبول على ملء الفراغ وإلى القانون الاجتماعي المؤكد أن المغلوب مولع بتقليد الغالب، واعتبارا لتلاقح الحضاري وتدافع الأفكار بين الشعوب المعمورة، فإنه لا مناص لنا من ظاهرة الاحتفال بهذه الأعياد. وعليه فإن السؤال المطروح هو: كيف نحتفل بهذه الأعياد؟ مادام الأمر مفروض علينا بقوة الأشياء فعلينا أن نستقبله بالكيفية التي تنسجم مع شخصيتنا النابعة من الحضارة الإسلامية. وحرصا على اتخاذ المواقف السلمية فلا بد مع توضيح ماهية الأصالة. لا شك أن أفضل وأحسن من تناول موضوع الأصالة والإنية والهوية هو المفكر مولود قاسم نايث بلقاسم الذي عرفها بقوله: (الأصالة هي أن يكون الإنسان ابن عصره، مع البقاء على أديم مصره ودون أن يصبح نسخة لغيره)1. ثم شبهها بالشجرة التي تحيا بجذورها وفروعها، فالأولى بمثابة شرايين الحياة تمتص بها عناصر الحياة من باطن الأرض وتقيها من الاجتثاث والاقتلاع ، والثانية بمثابة الرئة تمتص بها الهواء وتستقبل أشعة الشمس. غير أن ما أقلقه في مجتمعنا هو طغيان التطرف إن باسم المحافظة على الأصالة إلى درجة رفض الاستفادة من تجارب الأمم والتفاعل مع حضاراتها، أو باسم الانفتاح على الآخر إلى درجة التنكر للشخصية واعتبار مكوناتها أسبابا للتخلف والركود والجمود. ومما قاله في هذا السياق: (أما عن دعاة هذه وتلك من الاتجاهات ، فقد قلنا مرارا وبمختلف المناسبات أن فريقا منهم متطرف يدعونا باسم المحافظة والتقليد إلى غلق الأبواب، بل وحتى النوافذ حتى لا يدخل إلينا بصيص من النور، ولا نستنشق ذرة من الأوكسجين، فنعمى ونختنق. وفريق آخر يدعونا باسم التفتح والتقدم والتطور والأممية والعالمية إلى غير ذلك من الشعارات الجوفاء ، ويحاول أن يقنعنا لا بفتح النوافذ والأبواب فقط، بل ويحرضنا على نزع السقوف والرفوف أيضا، فنتعرض لمختلف الزوابع والهزات، ونصبح ضحية لعناصر الطبيعة، فنحن لسنا مع هؤلاء ولا أولئك، بل ننادي بالإنية والأصالة، وإن شئتم سميتموها الأصالية التي تتضمن بالضرورة كلا من الجذور والفروع شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تقيها جذورها من الاقتلاع ، وتجلب إليها شرايينها من الأعماق عنصر الحياة، كما تضمن لها فروعها مواكبة الطبيعة والاستمرار. أو كحصن حصين تفتح نوافذه لتسرب الضوء والهواء لكنه يحتفظ بسقفه للحماية من الحر والقر، هكذا نتصور هذه الإنية والأصالة اللتين تتضمنان بالضرورة التفتح والعالمية)2. إن تحصين الناشئة بالتربية الوطنية الصحيحة هو صمام الأمان الذي يضمن لنا الانفتاح على الآخر دون أن نخشى الانزلاق والانسلاخ، يضمن وقاية شبابنا من بريق الانبهار المحرق. وإذا كان شبابنا يعاني اليوم من أزمة ثقافية حادة جعلته يشرئب نحو الغرب، فإن ذلك يعود إلى تقصيرنا في ترقية اللغتين الوطنيتين العربية ذات الريادة والأمازيغية في الدرجة الموالية، وعلى التطاول على الدين الإسلامي إلى درجة تعطيل العقل وغلق باب الاجتهاد وارتكاب جرائم نكراء باسمه وهو بريء منها باعتباره صراطا مستقيما أنعم به الله على البشرية ليكون رحمة ليس للمؤمنين فقط بل للعالمين أجمع، ويعود أيضا إلى تقصيرنا في حق تاريخنا الضارب بجذوره في أعماق الأزمنة الغابرة، وقد ألح ربنا في الدعوة إلى الغوص في التاريخ في الماضي لدراسة تجارب الأمم واستخلاص الدروس والعبر للعض بالنواجذ على الأعمال والمآثر الصالحة وتلافي وتحاشي الطالحة منها (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون - سورة الأعراف- الآية 176). والغريب في الأمر أن الغرب قد سبقنا إلى تكريس هذا التوجيه الرباني فلم تكتف شعوب الغرب وأممها بدراسة ماضي الانسان من خلال مؤلفاته فقط - وهي قاصرة عن تغطية عمر الإنسان على الأرض، كما أن تعاقب الحروب والكوارث الطبيعية قد أتلف الكثير منها – بل التجأت إلى سد الفراغ التاريخي باختراعها "علم الآثار" لدراسة ماضي الإنسان من خلال بقاياه المادية. أما نحن في الجزائر فإننا بقينا إلى عهد قريب نمارس قتل ذاكرة أجدادنا من خلال التنكر للحقبة الأمازيغية. ومهما يكن من أمر فإن مبادرة وزارة الثقافة المتمثلة في افتتاح سنة الثقافة العربية في الجزائر يوم "عيد يناير" الموافق 12 جانفي- وهو عيد يحتفل فيه الجزائريون بالموسم الفلاحي الجديد منذ القديم - يعتبر خطوة إيجابية في اتجاه إعادة الاعتبار لماضينا البعيد على غرار ما فعله إخواننا في مصر والعراق والشام بتاريخهم الفرعوني والبابلي والفينيقي. وخلاصة الفكرة أن الحل ليس في التقوقع حول الذات كما أنه ليس في التفرقع بالذات، إنه في الوسطية التي نراها في الأصالة التي تربط المواطن بوطنه وأمته وشعبه وتاريخه ولغته ودينه، وتجعله يرى نفسه عنصرا في المجموعة البشرية لكنه متميز عنها، كما نراها في المعاصرة التي تعني مسايرة العصر للاستفادة من معارفه وتقدمه وازدهاره دون الانسلاخ عن الإنية والذوبان في الغير - على رأي المفكر مولود قاسم نايت بلقاسم - وليس هناك مجال للانغلاق، فأولادنا - حسب حكمة سلفنا الصالح- قد ولدوا لزمان غير زماننا وهو قول يؤكد أن حركية المجتمع بالتأثير والتأثر والأخذ والعطاء سنة الله في خلقه. وإذا كان البعض منا على الأقل قد دأب على استقبال أعياد السنة الميلادية بالحلويات المتنوعة - وهو سلوك حضاري يستحق التشجيع - فإنني أهدي للشعب الجزائري بهذه المناسبة مع التهاني الحارة، كتاب "تاريخ الجزائر في القديم والحديث" للمصلح الكبير مبارك الميلي الذي علق عليه الإمام عبد الحميد بن باديس بقوله (.... إذا كان من أحيا نفسا واحدة فكأنما أحيا الناس جميعا، فكيف من أحيا أمة كاملة؟ أحيا ماضيها وحاضرها، وحياتهما عند أبنائها حياة مستقبلها. فليس - والله - كفاء عملك أن تشكرك الأفراد. ولكن كفاءه أن تشكرك الأجيال)3. الهوامش: * هذا العنوان مستوحى من فكر مولود قاسم نايت بلقاسم. 1- أصالية أم إنفصالية ج 1 ص 92، منشورات وزارة الشؤون الدينية مطبعة البعث 1980. 2- المصدر نفسه ، ص 92. 3- تاريخ الجزائر في القديم والحديث ج 1 ص 10 المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر.