حزينة أنا، والعالم صار حشرة ضئيلة تقصع بالأصابع، إذا هممت. إني أحيانا أفكر بطريقة للانتحار سريعا لكي أهنأ قليلا بذاكرتي ، وأتخلص من هذا الجحيم واللاجدوى . أنا الآن كقطعة الأثاث الركين ، لا أخرج ، لا أتزّين ، ولا شأن لي بالأنوثة، ها أنا ذا أمضي رائعة النهار بالتطريز جالسة لساعات متواصلة على الأريكة القانية بحيث أن أردافي تسطحت وتصلبت كالحجر. والدتي تعتبر الأمر شيئا عاديا، حتى أنها لم تستفسر عما بي، ولم تحضّني على مساعدتها في شئون البيت الرحب الفخيم، ورغم أنها بلغت العقد السادس، فهي لا تدخر جهدا لتقوم بإعداء وجبتي الغداء والعشاء غير طالبة لمآزرتي لها، كما أنها تقوم بتوضيب البيت وترتيبه، يخيّل إلي أحيانا أن لها قلبا ميتا لا صلة له بالأمومة مطلقا . أما أبي فهو لا يمكث بالبيت كثيرا، دائما منشغل بالمصنع، وهاتفه الخلّوي لا يهدأ البتة، هذا دأبه المعتاد، لدوما يستقبل مكالمة تجعله يغادر مائدة الطعام، أو الفراش، في عجلة شديدة . وفي اللحظات القصيرة التي يمضيها في البيت، يكون انعزاليا وصموتا، يدخن قرب شرفته، وفي النادر ما يزجى الوقت بقراءة الصحف التي كنت أجلبها معي حينما كنت أعود من مركز البريد. لم يسألني لمَ توقفت على التردد على العمل، فيما كنت أنتظر مترقبة أن يفاتحني بالموضوع لكي أفرغ الغيظ وبراكين الألم التي تجيش بداخلي، على أني كنت أعرف أن الأمر إذا لم يكن ذا أهمية بالنسبة له، سواء طردت أو توقفت بملء إرادتي، فهو مبعث رضا و سرور له، فأنا لم أنس أبدا، أنه ما كان مقتنعا بأن تشتغل ابنته الوحيدة لدى أحد، طبعا لم يكن السبب عرفا تقليديا، أنما كان نوعا من الكبرياء المتغطرسة، فهو يعتقد أنه واحد من أثرى رجال البلدة، وليس من الطيب أن تشتغل ابنته أبدا، ولو كانت وظيفة حكومية مرموقة كمحاسبة على جهاز الكومبيوتر. لو قيل لي، أنني سأعيش رتابة ولحظات مملة خانقة كالتي أحياها الآن، ل''قرقرت'' ضاحكة واعتبرت ذلك ضربا من المستحيل، فامرأة مثلي من أسرة برجوازية، تملك سيارة خاصة، ولها حساب بنكي محترم يكفيني دهرا كاملا، ولا أعرف إذا ما كنت سأعتبر مغرورة حين أجهر للقراء، بأنني حسناء وفاتنة بشهادة شعوب كثيرة من الرجال، امرأة ممشوقة القوام كسمكة فضية، ذات عينان عسليتان مائلتان إلى الاخضرار، وأنف أشمّ، وخدّ أسيل، وشفتان منتفختان مرمريتين، وهبتني الطبيعة صدرا ناهدا طافح لا يهدأ له روع، و بحوزتي أرداف متماسكة كأنها ظهر العود وإن تورمتا هذه الأيام من حالة العزلة، وساقان ممتلئان مثل أعمدة فرعونية مصغرة، إذا ما خضت شارعا اتجهت نحوي أنظار الراجلين، والجالسين، والركع السجود، وكثيرة هي المرّات التي توقف خط السير حينما أكون أذرع الطريق بتلك الخطى المتزنة الإيقاعية، وحذائي يقرقع على الإسفلت بكل جرأة، وشعري يتطاير مع الهواء العليل. لا أعتقد أنني كنت أرتبك لمرأى ذلك، ببساطة أنني لم أكن أنظر لشيء سوى نقطة معينة في الأفق، مقنعة الرأس وعيناى محجوبتان بعوينات شمسية قاتمة، وهذا لا ينفي أن الأمر كان يمثل تسلية يومية تبعث بالزهو والبهجة المتكبرة . لما كنت أصل إلى العمل، كان الجميع يبدءون بافتعال أشياء لا تظهرهم على ما هم عليه في الواقع، تتغير ألفاظهم من الجلافة إلى النعومة، وترى أغلب الرجال مهندمين ببذلات ثمينة، يلهثون كالكلاب وراء مرضاتي، ويقومون بأشياء ساذجة كيما يجلبوا انتباهي لهم، ولكني، ظللت كما أنا، امرأة قوتها في ابتسامتها المربكة، بحيث لا يعرف إذا ماكانت ابتسامة تنم عن احتقار أم رضا؟ كنت واعية جدا بالفاصل الواهي بين الجدية المتطرفة والتسيّب الفاحش، لذا كان أحدهم ينعتني سرّا بالكيميائية، لعله كان محقا فيما سعى إليه، دون أن تكون لي يد في ذلك، فهكذا أشياء تأتي بلا دراية منا أو جهد على ما أزعم . أما ربّ عملي ، فلقد كان سعيدا جدا بي، لأنني كنت بمثابة صمام أمان للمركز، فأنا أفرض على الجميع نوعا من الانضباط والنشاط المتوثب يوما على إثر يوم دون أمارس سلطة مبينة على أحد، رغم أن سمعته السيئة خارج مركز البريد وداخله، خلعت علينا نحن الموظفات اسم ''عاهرات بلا وطن'' ولعل الإشاعة كانت ترمي إلى أننا وصوليات، همنا الأول والأخير هو المال، ولا شأن لنا بالأخلاق أو التربية، وإذا نظرنا إلى القضية بعين محايدة، لألفينا أن أغلبية الموظفات، اشتغلن لأن ليس لهن شرف غير شرف المال والشهرة . كنت أجلس وراء الحاجز الإسمنتي المسطّح بالسيراميك، ولي مقعد دوّار، وجهاز حاسوب لكشف الحسابات البنكية، وكانت تقف طوابير هائلة من الرجال، أصناف متعددة، شيوخ، أطفال، شباب، رجال وعجائز، منهم من كان يزجى الوقت ليس إلا بالاختباء داخل القاعة ذات المدافىء الجيدة في الشتاء، ومراوح السقف الكثيرة في الصيف، أما طائف منهم فكان يجيء لسبب أن ينظر إلىّ لساعات متواصلة حتى نهاية الدوام، دون أن يطرف له جفن، فيما الكثرة من هؤلاء كانت تريد أن تنال رقم هاتفي الخلوي ما استطاعت، ولعلني لا ''أتبلى'' على أحد، بأنها ليست قليلة تلك المرات التي كنت أجد رقما أحدهم مدونا على ظهر ورقة السحب البنكية بالنبط العريض. ... يتبع