الذكر هو المنزلة الكبرى التي منها يتزود العارفون ، وفيها يتجرون وإليها دائمًا يترددون ، وهو منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل ومن منعه عزل ، وهو قوت قلوب العارفين التي متى فارقتها صارت الأجساد لها قبورًا ، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بورًا ، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق ، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الطريق ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب ، والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب . به يستدفعون الآفات ويستكشفون الكربات وتهون عليهم به المصيبات ، إذا أظلَّهم البلاء فإليه ملجؤهم ، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم ، فهو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون ، ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون ، يدع القلب الحزين ضاحكًا مسرورًا ، ويوصل الذاكر إلى المذكور ، بل يدع الذاكر مذكورًا ، وفي كل جارحة من الجوارح عبودية مؤقتة (والذكر) عبودية القلب واللسان وهي غير مؤقتة ، بل هم يؤمرون بذكر معبودهم ومحبوبهم في كل حال ، قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ، فكما أن الجنة قيعان وهو غراسها ، فكذلك القلوب بور خراب وهو عمارتها وأساسها . وهو جلاء القلوب وصقالتها ودواؤها إذا غشيها اعتلالها ، وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقًا ازداد محبة إلى لقائه للمذكور واشتياقًا ، وإذا واطأ في ذكره قلبه للسانه نسى في جنب ذكره كل شيء ، وحفظ الله عليه كل شيء ، وكان له عوضًا من كل شيء، به يزول الوقر عن الأسماع والبكم عن الألسنة ، وتتقشع الظلمة عن الأبصار. زين الله به ألسنة الذاكرين كما زين بالنور أبصار الناظرين ، فاللسان الغافل كالعين العمياء ، والأذن الصماء واليد الشلاء. وهو باب الله الأعظم بينه وبين عبده ما لم يغلقه العبد بغفلته ، قال الحسن البصري : '' تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء : في الصلاة وفي الذكر وقراءة القرآن ، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق . فوائد الذكر : قد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم (الوابل الصيب) للذكر أكثر من سبعين فائدة . منها أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره ، ويرضى الرحمن عز وجل ، ويزيل الهم والغم والحزن ، ويجلب للقلب الفرح والسرور والبسط . ومنها : أنه يقوي القلب والبدن ، وينور الوجه والقلب ويجلب الرزق . ومنها : أنه يكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة ، ويورثه المحبة التي هي روح الإسلام وقطب رحى الدين ومدار السعادة والنجاة . ومنها : أنه يورث المراقبة حتى يدخل العبد في باب الإحسان فيعبد الله كأنه يراه ، ويورثه الإنابة والقرب ، فعلى قدر ذكر العبد لربه يكون قربه منه ، وعلى قدر غفلته يكون بعده عنه . ومنها : أنه يورث ذكر الله عز وجل ، قال تعالى : ( فاذكروني أذكركم)(البقرة/152) ، وفي الحديث القدسي : '' فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم '' . ومنها : أنه يورث حياة القلب كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : الذكر للقلب كالماء للسمك فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء . ومنها : أنه يورث جلاء القلب من صداه ، وكل شيء له صدأ ، وصدأ القلب الغفلة والهوى ، وجلاؤه الذكر والتوبة والاستغفار . ومنها : أنه يحط الخطايا ويذهبها ، فإنه من أعظم الحسنات والحسنات يذهبن السيئات. قال صلى الله عليه وسلم : ((من قال في يوم وليلة سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه ، وإن كانت مثل زبد البحر))(رواه البخاري ومسلم) . ومنها أنه سبب لنزول الرحمة والسكينة كما قال صلى الله عليه وسلم : ((وما اجتمع قوم في بيتٍ من بيوت الله ، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده))(رواه مسلم والترمذي) . ومنها : أنه سبب لانشغال اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب والفحش والباطل ، فمن عَوَّد لسانه ذكر الله صانه عن الباطل واللغو ، ومن يبس لسانه عن ذكر الله تعالى ترطب بكل باطل ولغو وفحش ولا حول ولا قوة إلا بالله . ومنها : أنه غراس الجنة كما في حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة)) . ومنها : أن العطاء والفضل الذي ترتب عليه لم يرتب على غيره من الأعمال ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((من قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب ، وكتبت له مائة حسنة ، ومحيت عنه مائة سيئة ، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه))(رواه البخاري ومسلم) . ومنها : أن دوام ذكر الرب تعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده ، فإن نسيان الرب سبحانه وتعالى يوجب نسيان نفسه ومصالحها قال تعالى : (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون)(الحشر/19) . وإذا نسى العبد نفسه أعرض عن مصالحها ونسيها واشتغل عنها فهلكت وفسدت ، كمن له زرع أو بستان أو ماشية أو غير ذلك مما صلاحه وفلاحه بتعاهده والقيام عليه فأهمله ونسيه واشتغل عنه بغيره فإنه يفسد ولابد . ومنها : أن الذكر شفاء لقسوة القلوب ، قال رجل للحسن : يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي ، قال : أذِبْهُ بالذكر ، وقال مكحول : ذكر الله شفاء ، وذكر الناس داء . ومنها : أن الذكر يوجب صلاة الله تعالى وملائكته على الذاكر ، ومن صلى الله تعالى عليه وملائكته فقد أفلح كل الفلاح ، وفاز كل الفوز ، قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرًا كثيرًا * وسبحوه بكرةً وأصيلاً * هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيمًا)(الأحزاب/41 43) . ومنها : أن الله عز وجل يباهي بالذاكرين ملائكته كما في حديث أبي سعيد الخدري قال : خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال : ما أجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر الله تعالى ، قال : آلله ما أجلسكم إلا ذاك ؟ قالوا : والله ما أجلسنا إلا ذاك ، قال : أما إني لم استحلفكم تهمة لكم ، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثًا مني ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال : ((ما أجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر الله تعالى ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ علينا بك ، قال : آلله ما أجلسكم إلا ذاك ؟ قالوا : آلله ما أجلسنا إلا ذاك ، قال : أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله تبارك وتعالى يباهي بكم الملائكة))(رواه مسلم) . ومنها : أن جميع الأعمال إنما شرعت إقامة لذكر الله عز وجل قال تعالى : (وأقم الصلاة لذكري)(طه/14) ، أي لإقامة ذكري ، وقال شيخ الإسلام في قوله تعالى : (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر)(العنكبوت/45) الصحيح أن معنى الآية أن الصلاة فيها مقصودان عظيمان وأحدهما أعظم من الآخر ، فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولما فيها من ذكر الله أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر .