أجمع العلماء كما لم يفعلوا يوما على أن العراق هو بالفعل ''مهد الحضارات''، واعتبر علماء الغرب وعلماء الشرق أن لفظ العراق يرجع في أصله إلى تراث لغوي من العصور القديمة مشتق من كلمة ''أوروك'' وتعني المستوطن، فالعراق أول مستوطنة بشرية منذ بدء الخلق .. وأعلن العلماء والمؤرخون أيضا أن العراق، بلاد أرض النهرين ومهد البشرية من أكثر بقع الدنيا التي سالت فيها الدماء، فكم قتل الحجاج بن يوسف من العراقيين ''نصرة'' للحكم الأموي؟ وكم قتل المغول من العراقيين عشقا وهياما بالقتل؟ وكم قتل العثمانيون من العراقيين ثمنا لاستمرار إمبراطوريتهم ؟ وكم قتل البريطانيون من الوطنيين الرافضين للاحتلال؟ وكم قتل جورج بوش الأب والابن من أبناء العراق البررة جريا وراء سراب الهيمنة ؟، وكم عاث الاحتلال الأمريكي فسادا ونهبا وقتلا منذ أن وطئت أقدامه النجسة بلاد الرافدين الطاهرة؟ وكم ابتلع جنون الاقتلال الطائفي من أبناء العراق وهو الذي كان في وقت غير بعيد مرشحا للنهوض من كبوته وهو الذي يمتلك مقدرات الأمم الكبرى بسبب العدد الكبير من العقول والخبراء والعلماء التي أنجبتهم الأمة العراقية ؟ .. الآن، وتزامنا مع تعالي الأصوات المعلنة عن قرب انسحاب الاحتلال الأمريكي من العراق، وبعد أيام من السكون ''الغادر'' والأمن النسبي عادت أخبار التفجيرات وشلالات الدم العراقي التي تراق في الشوارع، لتطل علينا عبر الفضائيات، مؤكدة أن الأمن يزداد اهتزازا... وبالإضافة إلى الوضع الأمني الهش، كشفت التقارير الدولية الجديدة، أن العراق يشهد معاناة اجتماعية واقتصادية بالغة التعقيد، وزاد انتشار الرشوة والمحسوبية وعمليات النهب المنظم الملايين وعشرات الملايين، ما بين فساد أو سلب من هذه المآسي، فعراق ما بعد صدام صنفته المنظمات الدولية على عرش القائمة السوداء في الفساد العالمي .. إن ما يقع في العراق كارثة بكل المقاييس، خاصة وأن العرب قبل غيرهم أصبحوا يرون في ما يحدث في بلاد الرافدين أمرا عاديا أو على الأقل يرونه شأنا محليا، مع أن الحقيقة غير ذلك تماما فما يحصل هو أن الأمن في بلاد عربية انمحى وتجاسر اللصوص من مختلف بقاع العالم على نفائس بغداد التاريخية، وتحول العراقيون من شعب أنتج حضارة عظمى إلى شعب يحطم حضارته بيديه. إن سلمنا أن ما يقع في العراق هذه الأيام من قتل وهرج ومرج، هو كرد فعل على سياسات حكومية فنقول، فعلا من حق العراقيين رفض كل السياسات ومن حقهم رفض كل الحكومات، ومن حقهم الانتفاض على المسؤولين لكن، ليس من حقهم أبدا هدر الدم العراقي عبثا، إن الصور التي تتناقلها وسائل الإعلام العالمية من مشاهد دمار ومئات القتلى والجرحى هو العبث بعينه، لأنه أمر لا يصدقه عقل وتخجل منه النفوس وتنكسر له القلوب، لأن الدم العراقي غالي وثمين، وليس من الحق أن يسيل هكذا.