يؤكد التاريخ البشري أن الأحداث الكبرى، كثيرا ما تكون سريعة في الزمن - بمعنى أنها تبرز في زمن ضيق - مثلها مثل الومضة أو البرق، لكن ليس الجميع من الناس يحيطون بإدراكها واستيعاب مضامينها، لذلك تكون حركة التغيير الإنساني، حركة بطيئة، بحكم جدليات الجهل والعلم والقوة والضعف والإيمان والكفر. ما تصنعه حركية الفوضى الإنسانية، التي تديرها السياسات الوجودية والأثنيات و''الميتامورفوزات العميقة '' في نضال الشعوب والأجناس، للتحرّر من كل قيود خارجية أو ذاتية، هي من تبعات روح الأطماع التوسعية في البشرية، لاعتبار أن هذه البشرية، ليست كلّها على دين ملّة واحدة، بل أغلبها تدين بمصالح وجودها السياسي والجغرافي، على حساب الوجود التاريخي، الذي يندثر ويصبح بلا جدوى في كثير من حالات حلزونية المدّ والجزر البشري، لأن الاقتصاد هو أكبر الديانات الوثنية التي بسطت نفوذها وعبدت طريقها للاستبداد والاستيطان. فالاحتلال والسيطرة والاستعباد . أذكر هذه الديباجة وأنا أتفكّر في قضية العرب المركزية والأولى منذ سنوات، فأجد نفسي كلّما أردت إعطاء وصفة الدواء، في حاجة إلى كثير من الصبر والتفكيك المفصلي والعضوي لمركبات أزمة الوجود الإسرائيلي في فلسطين، ليس على مستوى الواقع منذ تاريخ 1948 ولكن على مستوى التنظير الفكري، لنواة الفكرة الصهيونية قبل ذلك بكثير، فأستخلص في كل محاولة تقديم نتائج إلى حقيقة واحدة وهي أن ''فكرة إسرائيل'' لها دعائمها الخارجية، أكثر من تلك الدعائم الباطنية التي تكتنزها ''الفكرة''، فالوجود الإسرائيلي في أرض العرب لم يكن بأداة إسرائيلية بتاتا، رغم أنه من جنس إحدى الفروع اليهودية القديمة ولكنه من صنيع آخر، يتقاسم هاجس الخلاص من ''شرور محتملة''، فكانت بريطانيا العظمى وتبعاتها بعد الحرب العالمية الثانية، التي حققت هدف غرس ''شجرة الزقوم'' في بلاد فلسطين، لما تحتويه بريطانيا من مخزون استعماري وتسلطي على باقي الشعوب، التي لا تدين بالصليبية واليهودية وغيرهما من الديانات الثانوية الوضعية، فاستحكمت فكرة ''الدين'' على واقع الانفتاح العرقي والفلسفي السياسي على المنطقة العربية، الأكثر سخونة تاريخية، ووضعت إسرائيل على محورها التطبيقي، ثم استدارت إلى الهشاشات الفكرية في ''الأجساد العربية'' وبذلت جهودها في تمييعها وجرّها إلى قبول ''فكرة إسرائيل'' بأساليب الاستدمار، إلى أن زرعت بذورها من خلال أنظمة طيّعة وقريبة التأثير في ''روح العربي''، فما كان عليها إلاّ اصطياد جمهورية مصر . لابدّ من تحرير مصر عصب الإشكالية المركزية، ليس هو التفكير في تحرير فلسطين وعاصمتها القدس الشريف، إنّ البحث في هذا الاجتهاد خطأ ''ميتا-سياسي'' لا تغفره منهجية التحرير الحديث، وقد أثبت فشل نتائجه، على نطاق واسع من منظومة ''القومية العروبية'' منذ الخمسينيات إلى الآن، وكل دعاته استهلكوا كل النظريات القومية، كون فلسفة الاستعمار الغربي، تتطور بفعل ديناميكيتها، على فلسفة التحرير العربي بالمفهوم التقليدي للكلمة، وهو ما جعل ''فكرة إسرائيل'' تنضج وتحقق أهدافا، لم تكن ضمن الأولويات الصهيونية. الطريق الصحيح للتحرير العربي، لابد أن ينتقل إلى ''فكرة تحرير مصر'' من مخالب الأفكار الفرعونية واللدنية والديانات ''السياسوية'' الجديدة، وليدة ''فكرة الإرهاب''، التي هي ثمرة تحالف أمريكي - بريطاني - إسرائيلي، والتي حقّقت ارتقاء لإسرائيل، في كل سياسات ''النظام المصري الحاكم'' منذ التوقيع على معاهدة كامب ديفيد، التي تمثل لحظة وجع كبير في ''فكرة القومية''، والتي أفرزت عدة ثقوب عميقة، على محور تحرير فلسطين من الوجود الإسرائيلي، إلى غاية استحكام المفاصل المصيرية داخل مصر، التي تحوّلت من منطقة حضارية، ذات التأثير العميق في إدارة ''الأزمة العربية'' مع إسرائيل، إلى عكس التيار، فحققت لإسرائيل مالم تحقّقه بريطانيا العظمى قبل 1948 وما لم تتوقعه ''فكرة إسرائيل'' منذ ميلادها في أوروبا. بعيدا عن العاطفة العربية، أقول إنّ تخليص مصر من أنظمتها الاستبدادية المتعاقبة، سيكون جرعة استشفاء مبدئي، للوصول إلى تخليص فلسطين من عبء الأورام الإسرائيلية في منطقة الشرق الأوسط، وهذه ليست أطروحة للانقلاب السياسي على نظام حسني مبارك، لأن ذلك لن يتحقّق إلاّ على أيدي الشعب المصري، إلا أن هذا الأخير - قد يبدو معذورا - بسبب تلقيه طعنات اجتماعية وجيوثقافية، تشلّ عن الحركة الطبيعية، إلى درجة تحويله إلى ملهاة سحرية، عرفت سياسات إسرائيل كيف تنقله من واقع الحياة المعاصرة ومستجداتها العلمية، إلى واقع الخرافة والشعوذة الدينية، التي تميّز ديانات ''الثالوث المحرّم''، إلى درجة استطاعتها الاستثمار في ''رجال دين البلاط الحاكم''، في استهجان ذكاء الإنسان المصري وإعادته إلى متاحف أخناتون والفراعنة الذين جعلهم الله عبرة للإنسانية، بسبب استعلائهم فوق الأرض واستعبادهم لرقاب العباد، وهو ما أفلحت ''فكرة إسرائيل'' في إحيائه داخل نفوس المقهورين من الشعب المصري. تحرير فلسطين لا يبدأ إلا من ''تحرير مصر''، وهذا يتحقّق إذا كان إدراك الخطورة التي وصلت إليها حالة القضية العربية المركزية ''القدس الشريف''، في العقول الراشدة والطاقات الفكرية العربية، قد خرجت من حالة خجلها من ذاتها وشرط مواجهتها مرارة هذه الحقيقة التاريخية بمسؤولية وشجاعة وعقلانية .