ما يمكن إضافته في شأن الخطاب الديني القائم على حسن النية في أغلب الأحيان والذي نسمعه في أعظم مساجدنا بالجزائر، ميزته أنه يغلب عليه طابع المثالية بالنسبة لطرح قضايا المجتمع وتصوّر حلولها فيما هو معمول به منها، وما هو مأمول، يعطي هذا الخطاب الانطباع بأن دنيانا التي فيها معاشنا، أن تنظيمنا لأمور الحياة فيها لم يأت الله به من سلطان.. وكأن البديل والحلول إنما تكمن في قيام الدولة الإسلامية أو في المهدي المنتظر.. وفي أحسن الأحوال يلاحظ في بعض المساجد انصراف الخطاب الديني فيها إلى الآخرة وفردوسها، وجحيمها، والذي أرى فيه كثير من المبالغة مما ترتب عنه إضعاف العزيمة والإخلاص في التعامل مع القضايا اليومية الدنيوية، بجد، وحزم، ومسؤولية، والتي يستخلص منها أن أصبحت النظرة إليها في أغلب الأحوال متسمة بنوع من: الفتور، والسطحية، واللامسؤولية باعتبارها قضايا وانشغالات فانية لدار غرار، والحاصل من هذا وذاك حرمان المجتمع من الناحية العملية في نشاطه الحياتي اليومي ومن الاستفادة من تعاليم الدين الإسلامي وما يفرضه من موجبات ونواه فيما يخص المعاملات والعلاقات المادية بصورة عامة بين البشر في أمور الحياة الدنيوية، ذلك أن قواعد الدين قد أعطت في شأنها توجيهات عامة وكلية يسترشد بها المسلم في تحديد نوع وطبيعة مجرى العلاقات، ومفادها انه يعمل ويكدّ وكأنه يعيش أبدا إلخ.. هذه بعض الجوانب، وكثير منها لا يسعنا المقام لسردها جميعا، وكثيرها مذكور في فقرة علاقة الدين بالقانون من مرجعنا الموسوم الوجيز في فلسفة القانون ص34 وما بعدها الصادر عن ديوان المطبوعات الجامعية. إن إشكالية فصل الدين عن السياسة التي تعتبر لبّ الطرح السليم لمكانة الدين الإسلامي في المجتمع باعتباره مبدأ من مبادئ تنظيم المجتمع بحكم نص الدستور، ومرجعية أساسية بالنسبة لحزب جبهة التحرير الوطني، يحتم علينا تحديد الحدود التي لا يمكن تجاوزها، حتى لا يقع التداخل ولا تتكرر الأخطاء، يمكن القول بأن ما ذهبت إليه الدولة كاختيار، وما هو عليه منظور حزب جبهة التحرير، بأن الموقفين مجمعان على اعتبار الدين مبدأ وثابتا، للشعب الجزائري، فهو أحد أسس تكوين الضمير في الجماعة، بل والمجتمع كله، وهذا تطبيق أمين وشرعي لنداء أول نوفمبر .1945 إن سياسة التعليم في بلادنا والمتمثلة في برمجة تحصيل مستوى من أصول الدين والمتمثلة في تحفيظ بعض الآيات الكريمة من القرآن، وتعاليم التربية الدينية، والخلقية في مدارسنا، وإكمالياتنا، وثانوياتنا، بل وتشجيع الكتاتيب والمساجد على تحفيظ كتاب الله أو بعضه، في غاية من الأهمية، وأكثر من ذلك يعتبر فتح دراسات جامعية في معرفة أصول الدين منتهى الوفاء لمبادئ مجتمعنا ومرجعياته، وهذه الحقائق مسألة واقع لا جدال حولها أو نكران. أما فصل الدين عن السياسة على ما أعتقد، فهو النهج الذي كان محترما ومعمولا به منذ فجر الاستقلال بدون تصريح أو تنظير إلى غاية نهاية الثمانينات، من منظور أن الخطاب الديني كان موجها بالدرجة الأولى إلى جانب العبادات، أما فيما عداها من مواضيع فإذا كان لا يحقق الإجماع فإنه لا يدعو إلى الفتنة والتشرذم على الأقل، أما فيما بعد هذا التاريخ وبالدخول في عهد التعددية الحزبية والسياسية التي نتج عنها ميلاد ما يقرب الستين حزبا قد ظهر معظمها على الساحة بنشاط أو آخر من أجل كسب الأنصار وربح ثقة المواطنين، ومما هو ثابت أن مطالب بعض الأحزاب الإسلامية منها كانت معروفة من جهة، ومن جهة أخرى فإن خرقها للدستور، والدوس على قوانين الدولة موضوعه لا يحتاج إلى توضيح أو تكرار، و أن الثمن الباهظ لهذا الانزلاق أمره، وأوجاعه معروفة لدى السادة القراء أيضا... إن بقاء حزب جبهة التحرير الوطني خلال هول مرحلة التسعينات، متمسكا بنفس النهج والاختيار السليم الذي تميز به منذ الاستقلال من عدم الخلط بين الدين كعقيدة للمسلم، وتسيير مرافق الدولة في مختلف جوانبها وما يتطلبه العصر من تكنولوجية ونجاعة اقتصادية وإدارية، والاستمرار عليه بعد أن أصبح القوة السياسية الأولى في البلاد، أعاد إلى المجتمع برمته توازنه واستقراره واطمئنانه المفقود، وأعاد للدولة الجزائرية التوازن المطلوب الذي افتقدته أيضا منذ عشرية كاملة. إن ما حدث في عهد خلافة عثمان، أوعلي، يكفي عن كل تساءل في مدى أهمية فصل الدين على السياسة، أو التمييز بين الإسلام كعقيدة مقدسة فهو أولا وقبل كل شيء قضية علاقة بين العبد وربه، وأن تصرفات المسلم ولو كان أحد الخلفاء الراشدين، فهو بشر يصيب ويخطئ، وأن الخلاف الذي حصل بين عثمان، وكوكبة من الصحابة أمثال علي بن أبي طالب، عبد الرحمان بن عوف، الزبير بن العوام، سعد بن أبي وقاص، طلحة بن عبيد الله، عبد الله بن عباس، عمار بن ياسر، وأبي ذر الغفاري وحكام الأمصار أو الأقاليم، كان موضوع المعارضة فيه يتمثل في اتهام عثمان وميوله في تولي أقاربه في مناصب المسؤولية، وبالتصرف في أموال المسلمين بدون قاعدة أو حسيب، وكذلك اضطهاده لبعض الصحابة وطردهم من المدينة، مثل ما حصل مع أبي ذر الغفاري الخ. إن الخلاف الذي حصل ليس من الدين في شيء، بل يعتبر من القضايا السياسية، وكذلك ما حصل في معركة الجمل، لم يكن فيها الطرفان في نقاش أو مناظرة فكرية بل كان فيها القول الفصل إلى السيف والنبال، ولا يخطر على البال أن تكون قد اجتمعت عائشة أم المؤمنين، والزبير، وطلحة على ضلالة...! كمالا يتصوّر مطلقا أن يجتمع علي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن عباس على باطل أيضا... ! ولا جدال في ذلك من أن الطرفين أكثر الناس فهما للقرآن، وأكثرهم التصاقا بسنة الرسول الكريم، إن الاختلاف لم يكن لأمر ديني، بل كان لأمر سياسي، وهو أمر متعلق بالحكم، وإن غاية ما في الأمر أن السبب إنما يعود إلى أمر التفسير، ذلك أن لكل طرف رأيا، والناتج أن وصل بهما الأمر إلى الاقتتال... إذاً فسبب الاقتتال والفتنة هي أمور سياسية ودنيوية، وحاشا أن يكون سبب ذلك الدين، غير أن الانطلاق من الدين في تبرير الرأي السياسي يؤِدي لا محالة إلى التعصب للرأي وكأنه صحيح من الدين، ومن هنا تبدأ شرارة العنف بين الحركات الإسلامية، وتسيل الدماء أنهارا، والتاريخ الإسلامي حافل بهذه الشواهد. وكذلك ما حدث في أوروبا بالنسبة للديانة المسيحية، فكانت السبب في النقطة التي دار حولها أكثر الجدل في الفلسفة السياسية، فيما إذا كان من حق الرعايا مقاومة حكامهم، لأسباب جدية ومقبولة، فساد على امتداد القرن السادس عشر مبدأ يوجب على الرعايا الطاعة العمياء بحيث تكون المقاومة خطأ في جميع الحالات طبقا لنظرية حق الملوك الإلهي، لأن الطاعة العمياء لأي شكل من الحكم باستثناء الملكية مسألة أكاديمية، ومن جهة أخرى يرى أصحاب النظرية الافتراضية بإمكانية الدفاع على أفضل وجه عن حق المقاومة، ذلك أن الملوك إنما يستمدون سلطتهم من الشعب، ويجوز لأسباب كافية أن يحاسبهم... ومع ذلك فأيا من النظرتين لم تكن جديدة في حدّ ذاتها إذ الاعتقاد السائد في الديانة المسيحية أن الطاعة المدنية فضيلة مسيحية أمر بها الله، وذلك منذ عهد القديس بولص، وإنما الجديد فيهما ما تستخدمان من أجله. يطلق جانب من الفقه على النظريات التي تقدس الحكام، بالنظرية التيوقراطية، أو النظريات الدينية، وتتمثل هذه النظريات في ثلاث اتجاهات: الطبيعة الإلهية للحكام، فهي تخلع على الحكام الطبيعة الإلهية، فهم آله يعيشون وسط البشر ويحكمونهم، وهو ما كان سائدا في الممالك والإمبراطوريات القديمة، في مصر القديمة، وفي الصين، وفارس وروما، وقد استمر الشعب الياباني معتقدا بالطبيعة الإلهية لأباطرته إلى غاية الهزيمة التي لحقت بهم غداة الحرب العالمية الثانية، فانتهت معها هذه الفكرة. نظرية الحق المباشر، فالحاكم ولو كان من البشر إلا أنه يصطفى ويختار من الله الذي يمنحه السلطة ويخصه وحده بممارستها، فطاعته واجبة، ومعصيته تعتبر معصية لله، وقد نادت الكنيسة المسيحية بهذه النظرية، وقد استخدمها ملوك فرنسا لتدعيم سلطانهم على الشعب وخاصة لويس الرابع عشر، ولويس الخامس عشر، أي كان الاعتقاد سائدا لدى الرعية وبمباركة الكنيسة بأن السلطة مصدرها الله يختار من يشاء لممارستها. نظرية الحق الإلهي غير المباشر، بمقتضى هذه النظرية ولو أن الاختيار يكون من الشعب، إلا أنه يتم بإرشاد وتوجيه من العناية الإلهية الخ.. من هنا جاءت مطالبة أصحاب الرأي المتنور المتزن والمتبصر من وجوب فصل السياسة على الدين، وحجتهم في ذلك أنه في ميدان السياسة يحصل الاختلاف ويعمل به، ويقع الحوار، ويقع القبول بالرأي والرأي الآخر، وإذا ماحصل سخط أو تذمر فإنه لا يتجاوز النقد سواء فيما بين الأفراد أو فيما بين الأحزاب بمناسبة التنافس على سدة الحكم، وهو المتعارف عليه داخل الدول التي تعرف فيها الحياة السياسية الديمقراطية التعددية، والفصل بين الدين كمرجعية لتنظيم الشأن العام والسياسة وألوانها كمرجعية للتسيير الديمقراطي الخ.. .../... يتبع